الدكتور سعود المولى: مداخلة في ملتقى علماء الاجتماع العرب- تونس-27 تموز 2011

“تمر عقود ولا شيء يحدث، ثم تمر أسابيع فكأن عقوداً تحدث”. (لينين)

1- ما هو المصطلح الأدق لوصف ما يحدث في العالم العربي؟

ما حدث ويحدث في البلاد العربية هو بمصطلح علم الاجتماع “حركات اجتماعية”..

هناك ثلاثة عناصر أساسية للحركة الإجتماعية : 1 – جهود جماعية عامة مستمرة ودؤوبة ومنظمة تؤكد على مطالب مشتركة تُرفع إلى السلطات المستهدفة. 2- إستخدام مجموعة من التراكيب التوافقية يجري إختيارها من ضمن أشكال معينة من  العمل السياسي:جمعيات وهيئات، تحالفات واسعة، إجتماعات عامة، مسيرات وإعتصامات وتظاهرات، وتوقيع عرائض وبيانات إعلامية عامة وبيانات جماهيرية توزع على  الناس..إلخ.. 3- تضامن المشاركين وجديتهم ووحدتهم وعددهم وإلتزامهم..ولا تتطلب الحركات الإجتماعية تنظيماً شكلياً إذ أن عدة تحالفات يمكن لها العمل دون رابط  تنظيمي بينها غير القضية المشتركة..

بعد أن تنشأ الحركة الإجتماعية قد تعرف مرحلتين في عملية تعبئة وتجنيد الناس: في المرحلة الأولى يتجمع كل أصحاب الإهتمام العميق والمصلحة الأكيدة في الهدف الأساسي للحركة وقضيتها أو مبادئها..أما المرحلة الثانية والتي تأتي عادة بعد تحقبق الحركة لبعض النجاح وتوسع المشاركة فيها فتجذب المترددين والإنتهازيين الذين سيكونون أول من يترك السفينة إذا شارفت على الغرق أي عند أول فشل أو إحباط في الحركة..

وبالتأكيد فإن قوى خارجية  قد تتدخل بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وتحاول الإستفادة من الحركة كما قد تعمل على تشجيعها ..وهذا لا يلغي شرعية الحركة وإستقلالها وإنما يطرح عليها تحديات من نوع آخر خصوصاً لجهة منع التأثير الخارجي من توجيهها أو حرفها.

الحركات الإجتماعية تتشكل وتتبلور على قاعدة جماهيرية عريضة..ثم أنها تتمأسس لاحقاً..وهنا قد تعرف الحركة عدة مسارات: شكل من أشكال النجاح النسبي الرجراج (تونس 2011)، الفشل التام (لبنان 2005)، حدة القمع الحكومي الوحشي (إيران 2009،البحرين وليبيا وسوريا 2011)، التدخل الأجنبي لإسقاطها (مثال كومونة باريس 1871 هو الأبرز تاريخياً ولكنه حدث ويحدث عربياً كما في لبنان 2006-2010 والبحرين 2011)، أو إنتصار المطالب بالإندماج ضمن حركة وطنية أوسع (مثال مصر)..الخ..

والمشكلة الأساسية في الحركات  الإجتماعية تكمن في صعوبة  تحديد مدى  النجاح أو الفشل بسبب من حراكها الواسع ومطالبها المتغيرة وقواها المتحالفة ..

2- الجامع المشترك بين الأنظمة العربية

في العالم العربي نوعان من الأنظمة: أنظمة تقليدية لا تقر للشعب بحقه في ممارسة سيادته عبر اختيار ممثليه وتكوين مؤسساته الدستورية؛ وأنظمة استبدادية تصادر مجتمعاتها، فتختزلها بحزب وتختزل الحزب بشخص. وما يجمع بين النظامين التقليدي والاستبدادي، رفضهما لمبدأ تداول السلطة وحكم القانون وحق المشاركة واحترام حقوق الإنسان. ولا يجد الإنسان من سبيل للخروج من هذا الوضع سوى العودة إلى الماضي هرباً من الحاضر وخوفاً من المستقبل. ولهذه العودة إلى الماضي أشكالها المختلفة: فإما تكون عودة إلى نوع خرافي من الدين بعد أن تكون السياسة قد اختزلته، وإما تكون عودة إلى التكوينات الطائفية والإثنية التي كانت سائدة قبل قيام الدولة الوطنية.

لم تنتج الدولة الحديثة في العالم العربي نموذجاً للديموقراطية الخاص بها فلجأت إلى أشكال من الديكتاتورية الظاهرية والمقنعة.

في التلمود خرافة دينية تصف لنا واقع حال بلادنا العربية. تقول الرواية إن سيدنا سليمان  (النبي/الملك) حين شرع ببناء المعبد/الهيكل في أورشليم (مدينة السلام/القدس) لم يجد أفضل من تشغيل الجن لإنجاز العمل الذي استمر لمئات من السنين… وقد فاجأه الموت وهو يقف متكئاً على عصاه يراقب عمل الجن المرعوبين منه… إلى حد أنهم لم ينتبهوا لموته، فيما كانت دودة الأرض تأكل عصاه الهرمة… وهم استمروا في العمل برغم أن أحدهم انتبه وحاول تنبيههم بالغناء المتواصل أثناء العمل (ولعشرات السنين): أخضر يابس هات… سيدنا سليمان مات… ولكن من دون جدوى… حتى وقع الملك بعد سقوط عصاه!

هكذا حال أنظمتنا العربية من المحيط إلى الخليج، وبعضها معمّر مثل عصا سليمان… ومعظمها لا ينتبه إلى الدود ينخرعصا المُلك… وكلها يظن أنه بمنأى عن غضب الناس وعن وعيها وانتظامها في حركات اجتماعية تغييرية…

ماذا فعل هؤلاء الطغاة ببلاد العرب وقد إستلموها في النصف الثاني من القرن الماضي وهي تذخر بالإمكانات والطاقات والثروات..فحولوها خلال أربعة عقود إلى خراب ودمار وتوحش؟؟

طبعاً سيقول لنا قائل “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”..فهذه الأنظمة القمعية الديكتاتورية الفاسدة وصلت إلى الحكم بإسم فلسطين وحكمتنا بالنار والحديد وبالسجون والتشريد بإسم المعركة (المؤجلة دوماً) مع العدو الصهيوني..وفي الحقيقة هي لم تطلق طلقة واحدة ضد العدو ولم تبذل أي جهد حقيقي لنصرة شعب فلسطين ومجاهديه..

3- الأزمات المفجرة للغضب العربي والتمرد الشبابي

السياق التاريخي العام (الاجتماعي والسياسي) لنشوء الحركات الاجتماعية عادة هو سياق «الأزمة» (أو «الأزمات»)، التي تفرز عناصر المناخ العام الحاضن لتلك الحركات، والتي تطلق ديناميات تُحرَِر الناس من وهم الخوف وهمّه، ومن سحر عصا السلطة… فتدفع الأفراد إلى العمل معاً من أجل أهداف مشتركة، وبشعارات موحّدة، وبمطالب واحدة، (جماعية الجهد والتنظيم وجماعية الهدف والمصالح والمطالب)… وتبلور لهم نظام القيَم (أو المشروع/القضية) التي تربط بينهم بعروة وثقى تدفعهم إلى الانتماء والالتزام، وإلى التعبئة، وإلى استمرارية الحركة (وليس موسمية التحرك).

1-    أزمة فقدان العدالة والتوازن والكرامة في العلاقات الدولية: وهي تفاقمت منذ أحداث 11 أيلول والتطورات اللاحقة التي ساهمت في دفع العداوة الكامنة بين العالم العربي والغرب، ولا سيما الولايات المتحدة، إلى حدها الأقصى. وقد استفادت الاتجاهات الأصولية المتطرفة من هذه الأزمة لاكتساب شرعية شعبية في مجتمعاتنا. إن انحياز الغرب، ولا سيما الولايات المتحدة، لإسرائيل، واعتماده سياسة «الكيل بمكيالين»، هما جوهر الأزمة القائمة بين العالمين العربي والغربي، والتي أدت فيما أدت إليه إلى إعاقة التطور في بلادنا..

2-  الأزمة الناجمة عن العجز عن بلورة مشروع حضاري يؤمّن مصالحة المجتمعات العربية مع الذات ومع العصر. فالعالم العربي يُعاني من مخاض حضاري عميق. فهو عالم يبحث عن ذاته، وعن صيغة لوجوده، وعن موقع له في عالم اليوم يستطيع من خلاله أن يكون عنصراً إيجابياً في صنع الحضارة الإنسانية، انطلاقاً من أصالة هويته وفرادة تراثه. وقد كشفت لنا السنوات والتجارب الماضية عن أن الهول الذي يواجهنا عرباً ومسلمين، كما مسلمين ومسيحيين، كبير جداً، ويتناول سلامتنا الجسدية المادية، ومضموننا الثقافي والقيَمي، ومصالحنا الاقتصادية، في أخص ما لها من خصائص وفي أشمل ما لها من أطر. كما يتناول دورنا في العالم، إذ يراد لنا أن نكون مجموعة من البشر تزّود العالم المتقدم إمكانات السوق وتستهلك ما ينتجه على كل الصعد، وتبقى كماً مهملا لا دور لها ولا ريادة في صنع هذه المرحلة من التاريخ.

3-    أزمة التنمية في العالم العربي: وصف تقرير منظمة العمل العربية الذي صدر في نهاية عام 2008 الوضع الحالي للبطالة في المنطقة بأنه الأسوأ بين جميع مناطق العالم من دون منازع، وأنه في طريقه لتجاوز كل الخطوط الحمراء. ويشير التقرير إلى أن المنطقة العربية قد احتفظت بأعلى معدلات نسب البطالة بين الشباب على مستوى العالم بنسبة فاقت الـ25%…وقد اعتمد تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية العربية لعام 2009 هذه الوقائع، وأشار إلى أن 65 مليون عربي يعيشون في حالة فقر، مؤكداً أن البطالة تعدّ من المصادر الرئيسية لانعدام الأمن الاقتصادي في معظم البلدان العربية. وجاء في التقرير الصادر في بيروت يوم الثلاثاء 21/7/2009 أن معدلات الفقر العام تتراوح بين «28.6% و 30% في لبنان وسوريا في حدها الأدنى ونحو 59.9% في حدها الأعلى في اليمن ونحو 41 % في مصر..

4-   أزمة الديموقراطية في العالم العربي حيث أن الإنسان لا يستطيع ممارسة حقه في توليد السلطة ومحاسبتها..في الأساس تعاني مجتمعاتنا من تعذر إقامة أنظمة حكم ديموقراطية قائمة على حكم القانون والمشاركة الشعبية وقادرة على رسم السياسات الإنمائية وتوفير رقابة حقيقية على تنفيذها على أسس المساءلة والشفافية. ومن الأسباب الأساسية الأخرى لهذه الأزمة: وجود قيود كثيرة على مشاركة النساء في الحياة العامة، وغياب التنوع في البنية الاقتصادية بسبب الاتكال على عائدات النفط الخام والغاز، وتضخّم الاستدانة الخارجية، وتفشي ظاهرة الإهدار، والاندفاع المحموم في شراء السلاح، فضلاً عن انتشار الفساد بجميع أنواعه من رشى وسرقات وعمولات مشبوهة وهو السبب الأكثر وحشية وهمجية في مجتمعاتنا.

5-   أزمة الحرية في العالم العربي حيث تحوّل هذا العالم إلى «سجن كبير» تعيش وتموت بين جدرانه العالية أجيال وأجيال لم يعط لها حق المشاركة في تقرير مصيرها وتحقيق ذاتها؛ أجيال تنظر إلى العالم فتراه في حركة دائمة يتقدم حيناً ويتراجع أحياناً، بينما الزمن، زمنها، هو زمن معلق يحرسه الخوف، الخوف من كل شيء، من الوشاية والتجسس والتنصت والأجهزة. حتى أن هذا الخوف لم يعد بحاجة إلى خارج يستند إليه، فصار خوفاً يولد نفسه بنفسه، يجعل الإنسان رقيباً على ذاته، يتولى هو بنفسه مهمة قمع كل ما من شأنه أن يعرضه إلى خطر الملاحقة. وهذه الحراسة الذاتية هي التي دفعته إلى التخلي عن حقه في حياة طبيعية وعطلت حسه النقدي.

6-  بحسب ايمانويل طود هناك ثلاثة عوامل تفسر حدوث هذه الثورات اليوم: الزيادة السريعة لأعداد من يحسنون القراءة والكتابة، وخصوصاً بين النساء، وانخفاض معدّل الولادات، والتراجع الكبير في عادة الزواج من أبناء العمومة الأقربين. هذا يُظهر أن المجتمعات العربية كانت تسير باتجاه التحديث الثقافي والعقلي، الذي سيترتّب عليه أن الفرد سيغدو أكثر أهمية بصفته كياناً مستقلاً. هذا التطوّر سينتهي إلى تغيير النُظُم السياسية، وإلى موجة تحوّل ديموقراطي واسعة وإلى تحويل الرعايا إلى مواطنين. ومع أن هذا المسار يتّبع إتجاهاً عالمياً، فإنه يمكن أن يستغرق بعض الوقت. لقد انخفض معدّل الولادات بنسبة النصف في العالم العربي خلال جيل واحد فقط، من7،5 طفل للمرأة الواحدة في العام 1975 إلى 3،5 طفل في العام 2005. ويقلّ المعدّل بين النساء الجامعيات عن 2،1 بالمئة، علماً أن هذا المعدّل هو الحدّ الأدنى الضروري لكي لا يقل عدد السكان. وفي المغرب، والجزائر، وليبيا، ومصر، انخفض معدّل الولادات عن مستوى 3 أطفال للمرأة الواحدة. يعني ذلك أن البالغين من الشبّان يشكلون أغلبية السكان وأنهم، بعكس آبائهم وأمهاتهم، قادرون على القراءة والكتابة، ويستخدمون موانع الحَمَل. غير أنهم يعانون من البطالة ومن الإحباط الإجتماعي. وليس مفاجئاً، بناءً عليه، أن الإضطرابات كانت محتّمة في هذا القسم من العالم.

4-  اللحظة الإقليمية-الدولية في تأثيراتها المباشرة

السؤال الأساسي الذي يطرح نفسه هو: لماذا الآن، وليس قبل هذا اليوم؟ فالوضع الاقتصادي-الاجتماعي للجماهير الكادحة يتدهور منذ عقدين أو ثلاثة، وقد شهدت بلادنا عشرات ومئات الحركات الاحتجاجية خلال العقود الماضية دون أن تصل الى مستوى الحركة الاجتماعية الشاملة أو الثورة تطيح بالنظام.

باعتقادي أن العامل الحاسم من بين كل العوامل الرئيسية والأساسية التي سمحت بنجاح تلك الحركات يبقى عامل الوضع الاقليمي-الدولي الجديد.

ففي العقدي الأخير من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الـحادي والعشرين ظهرت تحولات جديدة كان لها أثر إيجابي  بالإجمال على الحراك الاجتماعي العربي:

1-     سقوط العديد من القواعد المستقرة في إدارة العلاقات الدولية ، حيث دخلت هذه العلاقات تحت الإشراف المباشر وغير المباشر للمجموعة الدولية (مجلس الأمن- الأمم المتحدة).. لقد صار التدخل  الدولي (الإنساني والسياسي لحماية الشعوب أو الأقليات أو الديموقراطية وحقوق الإنسان) سمة رئيسية في العقدين الماضيين لا يجوز التقليل من شأنها أو غض النظر عن معانيها ودلالاتها..

2-     بروز مفهوم وفكرة المجتمع المدني وشيوع ممارستها في البلاد العربية. وقد شهد العقدان الأخيران توالد مئات وآلاف الجمعيات والهيئات وانمتشار ثقافة المجتمع المدني ومناهجها وبرامجها ومطالبها وشعاراتها في كل البلاد العربية..

3-     التحول الديموقراطي في أوروبا الشرقية حيث سقط جدار برلين وانهارت كل دول الاستبداد الشيوعي في لمح البصر، وتهاوت الأحزاب التي كانت تحمل هذا الفكر وانتقلت العناصر الشريفة المخلصة الواعية الى الحركة الاجتماعية الناهضة فرفدتها بالتجربة والخبرة والوعي.

4-     بروز فكرة التدخل الإنساني والمسؤولية الأخلاقية والمعنوية للمجتمع الدولي في حفظ الأمن والاستقرار والعدالة وحقوق الإنسان.. وشيوع ممارستها عملياً في نماذج من التدخل المباشر كما في يوغوسلافيا السابقة وفي بعض بلدان أفريقيا.

5-     بروز فكرة العدالة الدولية وتطبيقها من خلال تفعيل محكمة لاهاي الدولية والمحاكم الخاصة بمحاكمة مجرمي بعض البلدان مثل يوغوسلافيا السابقة وسيراليون ولبنان.

6-     بروز نموذج إسلامي ديموقراطي يجمع ما بين الإسلامية التقليدية والعلمانية المعاصرة: تركيا..وتأثير ذلك على وعي وسلوك الطبقات الوسطى في بلادنا؛ مع فشل النماذج الإسلامية الثورية في توليد مشروع قابل للحياة والتطور: مثال الاستبداد الديني في ايران، وسيطرة العسكر في السودان، والنموذج الطالباني المتخلفن وما حملته هذه  النماذج من أخطار مباشرة وغير مباشرة على الوطن العربي.

7-     ظاهرة أسطول الحرية (التركي) وتقديمها لنموذج متطور لدعم القضية الفلسطينية مع البقاء ضمن إطار المجتمع الدولي والاستفادة من الشرعية الدولية ومن الشرعية الشعبية في آن معاً. النموذج التركي وقف على طرف نقيض مع الخطابات الرسمية العربية التي لم تحرك ساكناً حتى للرد على  اعتداءات مباشرة طالتها في حين تملأ الدنيا زعيقاً حول الممانعة والمقاومة.

8-     ترافق ذلك مع إنهيار الوضع الفلسطيني ويروز نموذج غزة الحمساوي الذي قام على الانشقاق الداخلي والصراع والتجزئة الى حدود الامارة الطالبانية الفاشلة.

9-     مع هذه الأسباب بدأت إرهاصات لما يمكن تسميته حركات اجتماعية في منطقتنا  مثل تشكل مجموعات مناهضة العولمة في عدة دول، واتساع ثقافة الاحتجاج والاعتراض والمطالبة: مثال مصر من خلال حركة كفاية…كما صارت الحركات الاحتجاجية أكثر تنظيماً وبلورت قياداتها الجديدة الشابة وشعاراتها ووسائل عملها..

5- الخصوصيات الإجتماعية لكل حركة أو انتفاضة

1ـ حدث واحد رمزي حكم انتفاضة الشعب التونسي وقاد حركته: الشهادة النبيلة لمحمد البوعزيزي… شهادة «انتحارية» على طريقة الكهنة البوذيين… حتى أن الشيخ يوسف القرضاوي لم يجد سوى أن يدعو الناس للصلاة كي تشفع لبوعزيزي عند الله…لم يلتقط الإسلام الرسمي ولا الحزبي، بأدواته الفقهية والنظرية التقليدية، معنى هذا الفعل  الثوري التاريخي ولم يدركوا اللحظة التاريخية ولا البعد الرمزي لحادثة بوعزيزي فتعاملوا معها بشكل فقهي نصوصي جامد.. شهادة بوعزيزي (وهو شهيد أكثر من أي انتحاري يفجر نفسه في الناس بفتاوى متدينين جهلة) أطلقت انتفاضة الكف العاري في وجه السيف، والدم البريء في وجه الدبابة..كان لا بد من فعل «استشهادي» فردي بطولي، يستعيد سيرة الحسين الحقيقية ونموذجه الفعلي: الجهاد المدني في وجه الظلم والطغيان..وقوة الإنسان الأعزل في وجه آلة القمع والبطش…وهذه بالمناسبة سيرة الثورة الإسلامية الإيرانية نفسها وقد أسقطت أعتى الإمبراطوريات وأشدها فراسة ووحشية بالمظاهرات المليونية السلمية “الاستشهادية”.

وبحسب الباحث والناشط الصديق صلاح جورشي فإنه مع اندلاع الثورة جرى إعادة تركيب الصورة الرمزية..ذلك أن المواجهة المباشرة مع السلطة وسقوط عشرات الشهداء في الأحياء والقرى نقلت الرمزية من البوعزيزي الى أولئك الشهداء كلهم   فإلى الثورة بحد ذاتها.. ثم كاد أن  يختفي  البعد الرمزي من المشهد اليومي حين صارت الناس هي المشهد وهي الرمز الفعلي الواقعي.

2 ـ حدثان سياسيان إثنان حكما مسيرة انتفاضة الشعب المصري وأشعلا نيرانها: الانتخابات المهزلة التي أجراها النظام ، وقد رفضتها كل القوى المحلية والدولية، بما فيها أميركا نفسها. ثم الهبة الوطنية – المدنية التي أعقبت تفجير كنيسة القديسَين في الإسكندرية. لقد لعب النظام مغامرته الأخيرة حين لم «ينتبه» إلى حساسية المسألة الطائفية في البلاد وحين ضرب عرض الحائط بذكاء ووعي ووطنية وكرامة المصريين، ناهيك عن تجاهله (الأعمى البصر والبصيرة) لعقود وعقود من القهر والبؤس والظلم والحرمان والفساد، قلَّ مثيلها في العالم.

فتجاوباً مع دعوة الإمام الأكبر، شيخ الأزهر د.أحمد الطيب بإطلاق مشروع بيت العائلة المصرية، قامت بوابة “أون إسلام” OnIslam.net بإطلاق أول موقع على الإنترنت يهتم بتعزيز “الحياة المشتركة” بين عنصرى الأمة المصرية، وذلك تزامناً مع احتفال أقباط مصر بذكرى الميلاد المجيد للسيد المسيح –عليه السلام– فى السابع من يناير ، وهى المبادرة التى عبرت رموز إسلامية ومسيحية مصرية عن دعمها الكامل لها لتعزيز مفهوم “العيش الواحد” والحياة المشتركة بين مسلمي مصر ومسيحييها، وانسجاماً مع حالة الإجماع الوطنى والإصرار على تدعيم قيم الوحدة المصرية التى كشفت عنها ردود الأفعال عقب حادث الاعتداء على كنيسة “القديسين” بالإسكندرية.. وهدف الموقع الذى حمل شعار “مصريون معا” لتقديم أرضية مناسبة وملتقيات مشتركة من أجل صناعة حالة من التوافق على قضايا الوطن، والتصدي لما يهدد وحدته.كذلك كان الموقع استجابة لما اقترحه المثقف المصرى “د.سمير مرقص” من تأسيس فوري لوقفية باسم “الحياة المشتركة” تعنى بتكريس مفاهيم المواطنة والشراكة المصيرية فى الوطن.وحظي المشروع بدعم كبير وتأييد من شخصيات ورموز مصرية مثل المستشار طارق البشرى، د.حنا جريس، د.نبيل عبد الفتاح، والكاتب الصحفي سعد هجرس، د.رفيق حبيب، والباحث سامح فوزي… وغيرهم.ومن جهته أكد الأنبا موسى، أسقف الشباب بالكنيسة الأرثوذكسية، دعمه الكامل للمبادرة ودورها فى تكريس خطاب المحبة بين المصريين جميعا، والتصدي للأخطار التى تتربص بالوطن بأكمله. وبحسب هشام جعفر، رئيس مجلس أمناء جمعية “مدى” للتنمية الإعلامية المالكة لبوابة “أون إسلام”، فإن موقع “مصريون معا” سيعمل للحفاظ على الوحدة الوطنية ودعم الحياة المشتركة وصيانتها بين المسيحيين والمسلمين عبر محاور عديدة، منها: إحياء رابطة المواطنة وتفعيل شراكة المواطن واعتبار ذلك مشروعاً قومياً..

3. في مقالة له نشرتها مجلة الشراع اللبنانية في 19 آذار 1995 كتب محمد حسنين هيكل أن اليكسي كوسيغين رئيس الوزراء السوفياتي، في زمن مضى، سأله مرة ماذا يفعل القذافي ببتروله؟ ثم أمسك كوسيغين ورقة وقلماً وراح يحسب حجم دخل ليبيا من البترول ويوزعه على عدد سكانها ثم ينظر إلى هيكل ويقول له “في غضون عشرين سنة سيكون كل مواطن ليبي مليونيراً”..فوفقاً لأكثر التقديرات تحفظاً بلغ إجمالي عائدات ليبيا النفطية حتى عام 2009 ما لا يقل عن ألف مليار دولار..في حين أن الزيادة السنوية لعدد الليبيين بقيت في معدلاتها الطبيعية: فإرتفع عدد السكان من 2 ونصف مليون عام 1974 إلى 3 ونصف مليون عام 1984 فإلى 5 ونصف مليون عام 2006..وهو اليوم يُقارب ال6 مليون..فماذا جرى لهذه الثروات الهائلة ؟؟ طبعاً الجواب عند أسرة القذافي ..كماعند أسرة مبارك وأسرة بن علي..وأسر غيرهم من حكام العرب..الذين يخبئون حساباتهم وعقاراتهم في أميركا وأوروبا.. لقد بلغ حجم الإنفاق العسكري الليبي خلال عقد الثمانينات وحده ضعف المعدل العالمي..فهل كان ذلك للدفاع عن فلسطين؟؟ لا بالطبع.. لقد اختار الليبيون يوم السابع عشر من شباط (فبراير) تاريخاً لخروجهم ضد النظام. والحال أن هذا اليوم صادف ذكرى مجزرة أرتكبت في حق مظاهرة سلمية شهدتها مدينة بنغازي عام 2005، وقتل خلالها أكثر من ستمائة متظاهر أعزل. ومظاهرة بنغازي تلك كانت تحيي ذكرى مجزرة رهيبة أخرى إرتكبتها السلطات الليبية في سجن أبوسليم قرب بنغازي وراح ضحيتها أكثر من 1200 سجين في عام 1996. وهكذا.. من مجزرة إلى مجزرة.. كان القذافي يكرر سلوك زين العابدين بن علي وآل الطرابلسي في تونس، وآل الأسد-مخلوف في سوريا،وآل مبارك في مصر، وآل علي صالح في  اليمن، وكل الأسر الحاكمة من المحيط الى الخليج…

4. الصديق الباحث البحريني نادر الكاظم وفي مداخلة له عن الهوية الشيعية في البحرين أرجع المشكلة الراهنة بشكل جزئي إلى حقيقة كون معظم دول الخليج عبارة عن مجتمعات تقليدية قديمة في ثوب دول حديثة لا تتقاطع حدودها بالضرورة مع حدود وجود تلك المجتمعات.وقال إن فشل دول الخليج في خلق نوع من التضامن الوطني يرجع إلى تغليب تلك الدول مفهوم الوطن الرومانسي على مفهوم الدولة السياسي والإداري، في حين أن الولاء الوطني لا ينشأ إلا بوجود جهاز دولة حقيقي وفعال،  يخدم جميع المواطنين دون تمييز.. ولكنني أعتقد أن المشكلة لا تتعلق بتغليب مفهوم الوطن الرومانسي على مفهوم الدولة، بقدر ما أنها ترتبط بتغليب معنى الوطن-الأسرة الحاكمة، والوطن-الطائفة الأقلية ، والوطن-العصابة المافياوية المسيطرة..على كل شيء.لقد لجأت دول الخليج (والبحرين خصوصاً) إلى “تمييع” مركز الولاء الوطني المفترض، فلا يُعرف هل المقصود هو الولاء للتراب الوطني، أم لجهاز الدولة، أم للأسرة الحاكمة؟ هذا الغموض أدى إلى تسليع (بحسب استخدام الكاظم للكلمة) الولاء والمتاجرة به عبر شبكة من العلاقات الزبائنية بين الأسر الحاكمة في الخليج والمجموعات الموالية لها وعلى حساب وجود قانون وعدالة ومساواة ومؤسسات وفصل سلطات…أي على حساب وجود دولة حديثة..

5.ينبغي أن نقرأ هذا الوضع في سياق أعم يشمل كل البلدان العربية، ليس فقط التقليدية منها (الملكية كالبحرين أو القبلية العشائرية كاليمن مثلاً) وإنما أيضاً تلك التي تدعي الحداثة والتقدمية والعلمانية (سوريا بالأخص)..والتي جعلت الدولة غولاً يفترس مجتمعه بدلاً من أن تكون الدولة جهاز إدارة للنشاطات المشتركة، له وظيفة إدارية لا أيديولوجية ولا دينية.

إن الدولة عندما ترزح تحت سيطرة طائفية لا تعود فاعلة كجهاز معني بإدارة نشاطات المجتمع وضبطه، بل هي تتحول إلى أداة في خدمة المصالح الخاصة لطائفة وفقاً للحصة التي تمتلكها هذه الطائفة أو (وهذا هو الأسوأ) حصة الممسكين بمصير هذه الطائفة من تحالف العسكر والمال.

كما أن هذه الدولة، التي تسيطر عليها فئة طائفية، تفقد دورها كضمانة عليا للمواطنين. فعندما ينتقل الفرد من حكم الدولة إلى خكم الطائفة التي ينتمي اليها يفقد كل الضمانات التي كان يتمتع بها بصفته مواطناً. إن حكم الطائفة المتمثل في أكثر الأحيان بزعيم يعاونه جهاز تنظيمي، هو حكم إعتباطي لا يحدده أو يشرع له قانون. وهو بالتالي من أسوأ أنواع الاستبداد..

6- الشباب وثورة الاتصالات والعولمة

في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين وسوريا صعد إلى واجهة النضال الجديد شباب بعمر الورد وطراوته خبروا وسائل العصر واستخدموها على أفضل ما يكون: من الهاتف الخلوي إلى الإنترنت، ومن الفايسبوك إلى التويتر واليوتيوب… وصف موقع أون إسلام مظاهرات مصر كالتالي: «حشود بعشرات الآلاف، لم يرفع واحد منها لافتة تميز هذا عن ذاك، ولم يردد شعاراً يكشف هويته أو التيار الذي يتبعه، فقط كانت اللافتات والشعارات تنطق بنفس المطالب التي يرددها المصريون في منازلهم… وهذا ما جذب إليها بعفوية الآلاف من شرفات المنازل ومن المتاجر والسيارات… حشود من كافة شرائح المجتمع المصري: أطفال وشيوخ وشباب، مسلمون ومسيحيون، نساء ورجال، ليبراليون وإسلاميون ويساريون ومستقلون، من مهن مختلفة وعاطلون، أغنياء وفقراء، منهم المعتادون على التظاهرات ومنهم أيضاً من كان يتظاهر لأول مرة، أو كان مقاطعاً للتظاهرات ثم اندفع إليها بقوة التأثير والتفاعل… الكل كان يوحدهم ويذيب أي فروق بينهم شعار واحد طغى على باقي الشعارات: “الحرية… التغيير… العدالة الاجتماعية”…

وبحسب ما كتبه عمرو الشوبكي في بداية الحراك المصري فإن كثيرين من أبناء هذا الجيل الجديد قد تفاعلوا مع العمل السياسي خارج إطار التنظيمات السياسية السرية والمفاهيم الحلقية للعمل الحزبي القديم؛ وهكذا صار الناصريون والقوميون والماركسيون ينتمون إلى قيمة التحرر الوطني والوحدة العربية، والى فكرة العدالة الاجتماعية والاشتراكية الديموقراطية بالمعنى الحديث للكلمة ، وظهر إسلاميون يدافعون عن جوهر القيم الدينية والأخلاقية والحضارية التي نادى بها الإسلام، وعلى كون الإسلام مشروع ثقافي وسياسي لا يلغي الآخر بل يتحاور معه ويتكامل في إطار الجماعة الوطنية… والشيء الرئيسي الذي ميّز جيل الألفية الثالثة عن جيل آبائه هو براءته من شتى أنواع العقليات والذهنيات التكفيرية والتخوينية التي سادت في الستينيات والسبعينيات؛ وقد تمتع الجيل الجديد بسعة صدر وسعة أفق وتسامح وسلمية لم تكن موجودة لدى جيل  قدامى اليسار الماركسي والقومي أو الاخوان المسلمين أو حتى اليمين الليبرالي…لم يحمل جيل ثورة يناير أحقاد أهله الحزبية والشللية ولا مرارات من تخرج من سجون ناصر والسادات..فهو جيل لم  يعرف الاعتقالات الجماعية على نمط حملات الخمسينيات ضد الشيوعيين والإخوان المسلمين، أو كما حدث في 1981 مع كل القوى السياسية…”إنما عاش مرحلة فيها قدر أكبر من التوافق الوطني والجيلي العام على أجندة معارضة لجوهر سياسات الداخل والخارج، قائمة أساسًا على الإصلاح السياسي والديموقراطي وعلى احترام حرية الرأي والتعبير وحقوق الإنسان”.

وقد انتمى هذا الجيل إلى جمعيات العمل الأهلي والمنظمات غير الحكومية التي تعاظم عددها ودورها منذ العام 1990 أي منذ انتهاء الحرب الباردة وشيوع مفهوم وممارسة المجتمع المدني. ويمكن القول بأن الممارسة السياسية والمدنية للجيل الجديد صارت “متعولمة” تطرح أفكاراً سياسية جديدة (الديموقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والمشاركة والتنمية المستدامة)، وصارت جمعيات المجتمع المدني نفسها عابرة للقوميات ومتداخلة مع العالم عبر شبكات المعلومات والبريد الإلكتروني.

وقد امتلكت قطاعات واسعة ومتزايدة من هذا الجيل خبرتها وتكوينها السياسي من خلال الانتماء إلى قضايا العالم وهمومه والتفاعل معه عبر تقديم قراءة نقدية لكثير من مثالب عصر العولمة، ولكن من خلال الحداثة وقيم العصر الديموقراطية ومفاهيم التعددية والمواطنة المتساوية والدولة المدنية.

السمة الشبابية للاحتجاجات لم تكن في العمر فقط، بل في الروح الجريئة أيضاً التي شملت كبار السن. ولكن الأهم هو أن هؤلاء الشباب اللاحزبي قاموا ببناء تحالفات عريضة ضد فساد وجشع الليبرالية الرأسمالية المتوحشة، تحالفات شملت كل الناس وكل الجماعات وبشكل عابر للطبقات وللإيديولوجيات: من مساجد وجمعيات أهلية تقليدية إلى أحزاب ومجتمع مدني حديث، ومن تجمعات يسارية إلى ليبرالية ديموقراطية وطنية… ومن حركات إنسانية وسلمية وبيئية ونسوية، إلى راديكالية دينية منحازة للعدل… الأمر الذي سمح تالياً بتنويع استراتيجيات وتكتيكات النضال بشكل استبق سياسات السلطة وأربكها… كما أن ذلك ضََمن بالأساس غلبة الطابع المعنوي الأخلاقي على الطابع المصلحي المادي للحركة الاجتماعية الواسعة…

وقد كتب المستشار طارق البشري في بدايات الثورة أن الحركة الشبابية الحالية هي نتاج تراكم لثقافة الخروج إلى الشارع في حركات احتجاجية جزئية جرت على مدى السنوات الست الماضية من سنة 2005. وأنها ذات أساليب مستحدثة، وأنها وإن لم تنجز ما يطمح إليه المصريون من احتياجات سياسية حيوية، فإنها يمكن أن تكرر ما عملت بعد فترة أو فترات وأن تستحدث أساليب أخرى بما أظهرت من ذكاء وحيوية، ومما فاجأ أمثاله من ذوي الخبرات القديمة عن الثورات والحركات الشعبية، وأن هذه الحركة قادرة على البقاء كقوة سياسية مؤثرة في موازين السياسة المصرية وذات تشكيلات تستحدثها، وسيبقى أثرها في الساحة المصرية السياسية، وقد أوجدت جيلاً جديداً من ساسة مصر وقادتها المستقبليين. ذلك ان الشعب المصري رمى إلى الشاطئ بموجة جديدة من شبابه الطيب، وهي موجة ما أعلاها وما أطيبها.

ونفس الأمر يمكن قوله عن شباب  تونس وليبيا وسوريا والبحرين واليمن والسعودية..الخ…

7- الفايسبوك وما أدراك ما الفايسبوك؟

شهد العقد  الأول من الألفية الثالثة للميلاد انحسار أشكال الاتصال والتواصل التي كانت تؤمنها الأحزاب ونواديها وصحفها خصوصاً مع تحول الصحف السياسية والفضائيات التابعة للأنظمة أو المتواطئة معها على تعميم النمط الثقافي السريع الاستهلاك، الى أبواق استرزاق نخبوية بعيدة كل البعد عن هموم الناس ومشاغلها..فجاء الانترنت ثم الفايسبوك والتويتر ليسد الفراغ في آليات وأشكال الإتصال والتواصل بين الأجيال الشابة من خلال العالم الافتراضي للتواصل عن بعد.. كما لعب هذا الإعلام التواصلي الاجتماعي دور الجماعة الفاعلة التي عوضت بعض الشيء إنحلال أواصر العلاقات الاجتماعية والتضامنية التقليدية التي حرصت الأنظمة الاستبدادية على تفكيكها وتقويضها والاستعاضة عنها بالولاءات الزبائنية والمصلحية والفردية الانتهازية…

وفي حين رأى قدامى اليساريين والقوميين في الفايسبوك مؤامرة صهيونية إمبريالية أو في أحسن الأحوال أن الفايسبوك يخلق فضاء تتحكم فيه سلطة الرأسمال المعولم والمخابرات أو السلطة الخفية لمن يملك مفاتيح إغلاق أو فتح هذه الوسيلة أمام الاستخدام الشعبي الحقيقي (غوغل وغيرها من المشغلين كمثال)..فإن الفايسبوك ساهم في الواقع في افراز خطاب جماهيري ثوري موحد يتم تداوله على نطاق أوسع ويسمح بتفاعل حي ما بين المرسلين والمتلقين (حتى تضيع الفواصل والحدود بينهما).كما أظهرت أحداث الثورات أن الفايسبوك والتويتر لعبا دور الإعلام المباشر عن الحدث ونقله وفضح الممارسات القمعية وتأمين امكانيات الرد والحشد والتعبئة إضافة الى  الدور التثقيفي السياسي والتنظيمي الهائل من خلال نقل الخطب والشعارات والأناشيد والأغاني والنكات والحكايات والتجارب الشخصية والجماعية ما أسهم ويسهم في تشكيل الوعي السياسي للناشطين الشباب وتحويلهم من مستخدمين لأداة الى فاعلين اجتماعيين مباشرين في الحدث ونتائجه وتداعياته..لقد ساهم الفايسبوك في صياغة وعي قطاعات واسعة من جيل الألفية الثالثة بلغة العصر، وربط همومه المحلية والقومية بهموم العالم، وساعده على صياغة لغة جديدة إنسانية يمكن لها أن تؤثر في العالم وتتأثر به… ولئن كان صحيحاً القول بأن العلاقات الاجتماعية الناشئة عن الفايسبوك تقوم على عالم افتراضي وعلى تواصل عن بعد، إلا  أنه لا  ينبغي أن نتجاهل كون هذا العالم الافتراضي هو إمتداد للعالم الواقعي الحقيقي وهو سرعان ما يتماهى معه من خلال النزول اليومي الى الميدان والساحة ومن خلال الجامع صلاة الجمعة أو مظاهرات الأحياء الشعبية في الليل أو زحف الأرياف والقرى نحو المدن كما حدث في تونس ومصر وأخيراً بشكل رائع في سوريا..

فالأساس في الثورات ما زال لنبض الناس الحار واللقاء المباشر في الميدان الفعلي للمواجهة..

 إلا  أن هذا لم يكن ليتحقق لولا التواصل عبر الفايسبوك والإنترنت والتويتر أولاً..

أما القول بوجود سلطة خفية مهيمنة فهذا قول مردود لأن هذا المجال المفتوح هو ككل مجال معرفي جديد حقل صراعي مفتوح وليس حقلاً سكونياً جامداً..والفاعلون هنا يملكون من الرساميل الرمزية والثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية ما يسمح لهم بخوض هذا الصراع وبامتلاك مفاتيحه ونواصيه…وهؤلاء الشباب لا يأتون من فراغ بل هم أبناء  جيل وجيلين من الحركات السياسية والنقابية والشبابية النضالية ومن الأجواء والاختمارات الفكرية والذهنية والسلوكية ومن ثقافة سياسية تسربت اليهم من التعليم الجامعي الذي تلقوه ومن معايشتهم لأزمات بلادهم ومن الاعلام المفتوح عبر الفضائيات المتنافسة..

8-الأنظمة العربية وقضية البديل الإسلامي والسلفية

لم تكن الأحزاب (وخصوصاً الإسلامية منها) موجودة في هذه الثورات..ذلك أن الأنظمة العربية ألغت الحياة السياسية وألغت الخيارات الديموقراطية للناس. وقد سبقت الناس القوى الطليعية المنظمة وفرضت شعاراتها وأجندتها على الحدث… يكفي أن نستعرض خطاب وممارسة القوى السياسية الرئيسة لنكتشف كم كانت جامدة خشبية تقليدية تلهث خلف السلطة بأي شكل كان..لم يكن سقف الأحزاب والشخصيات المعارضة ليتجاوز إجراء اصلاحات بسيطة قليلة وبخجل..ولم تكن الثورة أو  الانتفاضة على جدول أعمال أي طرف سياسي لا إسلامي ولا يساري ولا قومي ولا علماني.الحركة الاجتماعية سبقتهم جميعاً… في تونس كادت الأحزاب المعارضة تعطي لبن علي فرصة بعد خطابه المفكك المرتبك الذي حاول فيه تقليد الرئيس الفرنسي دوغول… ولكن الناس لم تصدق تمثيله الفاشل ونزلت إلى الشارع ولم ولا تغادره… وفي مصر حاولت الأحزاب والمعارضة في البداية قطف الثمرة سريعاً «طالما أن أميركا والجيش معنا الآن»… ولكن الناس لم تغادر ميدان التحرير… وفي كلتا الحالتين ما تزال الأمور غير مستقرة ولا نهائية… ذلك أن الحركات الاجتماعية الكبرى في التاريخ سرعان ما تواجه معضلة التنظيم والقيادة والبرنامج الواضح والخطط المستقبلية…

في تونس لم تستطع السلفية الجهادية أن تثبت أقدامها (على عكس الجزائر والمغرب وليبيا) بفضل وعي ووطنية حزب النهضة الإسلامي الذي أعلن رئيسه الشيخ راشد الغنوشي مبكراً (منذ عام 1992): “لقد تجنبنا الرد على عنف الدولة بعنف مضاد… وباءت بالفشل كل محاولات النظام لتوريط الحركة في هذا السبيل. ولذلك إذا كان من استقرار في تونس اليوم فإنما هو عائد إلى منهج المصابرة الذي توخته الحركة ودفع السيئة بالتي هي أحسن ورفض الاستدراج إلى العنف. هذا هو خيارنا الذي اجتمعت ولا تزال حوله غالبية أبناء الحركة. فمن لم يطق صبراً عليه فليبحث له عن سقف آخر بديل عن النهضة يقف تحته”.

وفي مصر حدث التحول الكبير حين قامت الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد بمراجعات شجاعة حقيقية وشفافة (بدءاً من عام 1998) أنهت حقبة التوتر والعنف ورسخت السلم الأهلي وأنجزت استقراراً كبيراً في المجتمع المصري؛ ما أضاف إلى موقف التيارين الإسلاميين الآخرين (الإخوان وشباب الوسط) وإلى المعارضة عموماً، قوة مدنية سلمية ديموقراطية شابة مجربة سمحت بمواجهة عسف السلطة وفسادها على قواعد جديدة تحمي المواطنة والتعددية والوحدة الوطنية… والتجربتان التونسية والمصرية (وهما تشبهان هنا التركية والإيرانية) تميزتا في الأصل بوجود نظام علماني حداثوي وطني، ودولة مركزية قوية ذات شرعية ثابتة وسيادة غير منتقصة (وكلها صمام أمان التنّوع الأقلوي)، تردفها ليبرالية بورجوازية مستقرة في مجتمع مديني غالب، ما يعني ضعف أو غياب العصبيات النابذة والمفككة للدولة… كما يعني في الوقت نفسه تغوّل الدولة على حساب المجتمع وخياراته…

 لقد تجاوزت الأحداث قوى الحركة الإسلامية العربية… فقد سقطت التجربة الإسلامية في السودان وإيران في أتون التسلط الثوري والاستبداد الديني بعد الانقلاب على أهلها (من حسن الترابي إلى خاتمي – رفسنجاني- موسوي)… وفي العراق تحوّل الإسلام السياسي (حزب  الدعوة الشيعي) إلى نظام حكم فاسد ديكتاتوري، يُعيد إنتاج الصنم البائد (ولكن المرة الثانية تكون عادة على شكل مسخرة – والكلام لماركس)… وفي تونس والمغرب والسودان والأردن واليمن  (وغيرها) لم يخرج التيار الإسلامي “الديموقراطي” عن إطار التنظير النخبوي والجامد للمواطنة والحقوق المدنية والتعددية، مع غلبة اللفظية الإسلاموية القومية الشعبوية والشعاراتية في خطابه… فلم يرتبط بديناميات الحراك السياسي الاجتماعي الفعلي للناس وهمومها… إذ كان همّه تقاسم السلطة… غاب الإسلاميون (كما اليساريون والقوميون) عن ساحة الفعل الاجتماعي السياسي .

أما السلفية الجهادية القاعدية البن لادنية فهي كانت تتغذى وتستمر وتقوى من وجود هذه الأنظمة ومن غياب الناس عن ساحة الفعل السياسي والحراك الاجتماعي..وما أن تقوم الحركات الشبابية والاجتماعية حتى ينتهى أصلاً دور هذه السلفيات الجهادية..وبالتالي فكل ادعاءات الأنظمة عن سلفيات وأصوليات ما هو إلا من قبيل استخدامها فزاعة لإبقاء دعم الغرب لهذه الأنظمة بحجة التقاء المصالح في وجه الارهاب..وبعض هذه الأنظمة كان وما يزال المأوى والداعم والمصدِّر الأول لعمليات القاعدة والسلفية الجهادية ضد جيرانه (سوريا على سبيل المثال).

9-ما هو الجديد إذن في ربيع الشعوب العربية؟

ثورات الشباب في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين وسوريا ، وقبلها ثوراتنا المجهضة في لبنان وإيران، هذه الثورات كسرت حواجز الخوف والرعب والعزلة التي عاشها الناس طيلة عقود من القهر والذل والقمع..

تمثلت الثورة على روتين الخضوع اليومي المستدام  خصوصاً في اندفاع الناس للنزول الى الشوارع والساحات العامة بدل البقاء في العزلة الفردية في المنزل أو مكان العمل أو في الحارة أو القرية.. ويأتي في طليعة وسائل الخروج العام للناس على قواعد وضوابط الاستكانة والخضوع والمهانة دور شبكات التواصل الاجتماعي عبر الانترنت والفايسبوك والتويتر وغيرها..

خرج الناس شارعاً شارعاً وزنقة زنقة وحارة حارة وبيتاً بيتاً  يقضون مضاجع الجلادين ويصرخون في وجه الظلمة الفاجرين..

والقيمة الأساس لكل ما جرى ويجري في البلاد العربية تتمثل في انطلاق مارد الحرية والكرامة من قمقمه الذي حُبس فيه منذ تسلط على رقاب هذه الأمة وشعوبها  ظباط  انقلابات آخر الليل، فرسان الهزائم والنكسات في وجه العدو المحتل ..

انطلقت الحناجر وتعالت الأصوات  تنادي بحرية الرأي والتعبير..ومارس الناس هذا الحق عبر البيانات والشعارات واليافطات والمناقشات وعبر أصوات الهتافات تصرخ وتشدو بلابلها بأجمل ألحان الحرية في الشوارع والحارات وفي  القرى وعلى الطرقات…

ومارس الناس الحرية في الانتظام والتنظيم وفي تشكيل التكتلات والتيارات والتحالفات..

ومارسوها في تبنيهم وهضمهم وتوطينهم لمفاهيم الديموقراطية والمساواة والمواطنة والعدالة وهي المفاهيم التي قال المستشرقون وقالت أحزاب الهزيمة والنكسة والانقلابات والاغتيالات انها مفاهيم ومعايير حديثة غربية بعيدة عن عقلية وذهنية شعوبنا القبلية الطائفية العشائرية..

وطرح الناس شعارلا للفساد وحولوه الى هم جماهيري والى أداة تحشيد وتعبئة في  وجه الذين كدسوا مليارات الدولارات في بنوك الغرب مسحوبة من دماء شباب الوطن وشاباتها الذين قضوا في السجون الرهيبة أو على الحدود مع العدو..

اكتشفت شعوبنا معنى  الكرامة البشرية ومعنى الحقوق المسلوبة منذ عقود ومعنى وضرورة المطالبة باستعادتها ولو بثمن الموت.. نعم طاب الموت والله طاب… وعزت الروح.. ولم تبخل الشعوب بها..

اكتشف الناس معنى المسؤولية الفردية  والجمعية ومعنى المبادرة الى تحملها..وقاموا بذلك بكل اقتدار وعنفوان ..

واكتشف الناس معنى الوعي واليقظة في الدفاع عن المنجزات والمكتسبات وعدم الغفلة أو التهاون في وجه المتسلقين والانتهازيين ..فحشروا الاحزاب والشخصيات السياسية  في الزاوية..

ومن واقع وحقيقة حداثة وعفوية وسائل التعبير والتنظيم، وواقع وحقيقة كون المطالبة سلمية ديموقراطية جماهيرية، كانت المعركة مع الأنظمة معركة شعبية لا عنفية ولا حزبية ولا نخبوية.. وقد رفضت الجماهير كل  الزعامات المسقطة على الناس فجأة  أو القادمة اليهم من الخارج ..

أما الجديد الرائع والخطير في آن معاً فيتمثل في ذلك الشعار البسيط الذي صار اليوم موضة العصر من المحيط الى الخليج: الشعب يريد… تلك الكلمة السحرية: الشعب يريد تؤذن بتبلور الارادة الشعبية للناس باعتبارها المقدمة الضرورية لكل اجتماع سياسي  مدني يقوم على قواعد ثابتة من العدالة والمساواة ومن الحرية والكرامة … وبالتالي فإنه يؤذن بولادة الرأي العام العربي بدل الغوغاء والجموع والحشود التي تهتف لجلادها الحزب الواحد والقائد الأوحد والزعيم المعصوم…صار الرأي العام هو وحده القائد وهو وحده المعصوم..

أما المنعطف السياسي الأهم والأخطر فتمثل في طرح مطلب وشعار إقامة الدولة المدنية.. لا دولة دينية ولا دولة علمانية، لا دولة فاشية أو شيوعية أو بعثية أو قومية عربية أو سورية… الدولة المدنية… الدولة المدنية هذه هي المسألة والقضية الأساس التي ستحكم الحوارات والمجادلات والسياسات للعقود القادمة…

10-نحو عقد اجتماعي عربي جديد

اليوم تولد الشعوب العربية من جديد بعد عقود من الموت السريري على يد أنظمة سياسية استبدادية وقهرية، جاءت إلى الحكم باسم فلسطين والتحرر والوحدة العربية فلم تورثنا بعد أكثر من نصف قرن سوى احتقار حرية الإنسان وكرامته لا بل وحياته البائسة..ها هي الشعوب العربية تتقدم على طريق امتلاك مصيرها بنفسها أي استعادة حقوقها المهدورة، واستعادة إنسانيتها المنتهكة، واستعادة حريتها وكرامتها المغتصبة..

هذه الثورات العربية الجديدة أعادت وتعيد تشكيل الشعوب العربية التي أضناها القمع والاستبداد السلطوي-المافيوي والانقسام الطائفي- العشائري والتنازع الحزبي والفئوي.. وفي أتون هذه الثورات تغلبت الشعوب العربية على الخوف واليأس والاستلاب والتهميش والمهانة والعطالة والإحباط وفقدان الهوية وضياع الذات..فاكتشفت القوة الحقيقية للوحدة والقدرة الحقيقية للوعي والتنظيم والقيمة الحقيقية للحرية والديموقراطية..

هذه الثورات العربية الجديدة تعيد تشكيل العالم العربي ونظامه الإقليمي المنهار منذ حرب الخليج  وسقوط الاتحاد السوفياتي 1990-1991…

هذه الثورات العربية هي فاتحة عهد عربي جديد عنوانه العام والرئيس: صياغة عقد اجتماعي جديد يقوم على الكرامة والحرية والعدالة، وعلى حكم القانون والمؤسسات، وعلى إلغاء نظام السلطة المطلقة أو أشكال الحكم الديكتاتورية، وعلى إقامة نظم سياسية تشاركية لا إلغائية فيها ولا حصرية عائلية مافيوية، وعلى إقامة برلمانات منتخبة ديموقراطياً تحقق مشاركة جميع الأفراد في القرارات عبر ممثليهم، وعلى تداول السلطة سلمياً، وعلى إطلاق الحريات العامة للناس دون تمييز أو غلبة..


 

Advertisement