بيان قديم يستحق اعادة النشر
ليبيا وسوريا: مؤامرة أم انتفاضة شعبية؟
عرفت الأقطار العربية خلال أوائل المنتصف الثّاني من القرن العشرين أربعة نماذج من التّحولات:
أ- نموذج من الأقطار انتقل من وضعية المستعمرة المباشرة إلى وضعية المستعمرة الجديدة مثال : ( تونس والمغرب).
ب-نموذج من الأقطار شهد وصول قوى وطنية معادية للإمبريالية والصهيونية إلى السلطة عبر انقلابات عسكرية مثل التجربة الناصرية في مصر وليبيا والبعثية في العراق وسوريا.
ت-نموذج من الأقطار تحرّر من الاستعمار بحرب شعبية طويلة الأمد قادتها قوى وطنية (الجزائر) أو قوى متعاطفة مع تجربة الصين ( اليمن الجنوبي).
ث-نموذج تجربة ثورية في ظفار بقيادة الجبهة الشعبية لتحرير عمان ذات توجه ماوي أجهضت من قبل تحالف امبريالي رجعي صهيوني.
أثّرت هذه التحولات بخصائصها وتنوعها، في التّاريخ العربي المعاصر، إذ سلكت أنظمة النموذج الأول طريق الخضوع لتعليمات الإمبريالية العالمية وكرّست سياسة تآمرية استسلامية في معالجة قضية الصراع العربي/ الصهيوني ونفّذت برامج اقتصادية مرتبطة بخيارات الرأسمالية العالمية ومارست القمع والدّكتاتورية في علاقتها بجماهيرها.
أما أنظمة النّموذج الثّاني فإنّها عملت بعد افتكاكها السلطة على سلوك سياسة معادية للإمبريالية. حيث أممت الثروات وألغت وجود القواعد العسكرية الأجنبية وانسحبت من الأحلاف ودعت إلى الوحدة العربية وإلى تحرير فلسطين بالكفاح المسلّح وهاجمت الأنظمة الرجعية المستسلمة. كما أنها انجزت بعض الإصلاحات ذات الطابع الاجتماعي لصالح الجماهير في مجالات الصحة والتعليم والسكن وقلّصت من نفوذ الإقطاع وكبار ملاكي الأراضي في الأرياف وحاولت بناء مؤسسات صناعية متقدمة وتطوير البحث العلمي. لكن تجربة جبهة الأنظمة الوطنية المقابلة لجبهة الأنظمة المتواطئة مع الإمبريالية العالمية والمعادية للتحرر العربي لم تخلو من العديد من النقائص والانحرافات نلخصها في النقاط التّالية:
· مارست هذه الأنظمة سياسة لا ديمقراطية في علاقتها بالجماهير. حيث سيطرت أحزابهاعلى المنظّمات الجماهيرية وأقصت القوى الشيوعية والوطنية الأخرى وأصبحت المنظّمات الجماهيرية منظّمات حزبية تأتمر بأوامر هذه الأحزاب.
وشكّلت بعض هذه الأنظمة” جبهات تقدمية” داخلية صورية، ففي سوريا يمنع على الأحزاب المنخرطة في الجبهة أي نشاط في صلب الجيش والطلبة، في حين رفضت” حركة اللجان الثورية” الليبية مبدأ العمل الجبهوي واعتبرت أنّه ” لا ثوري خارج حركة اللجان الثورية”
· فجّرت هذه الأنظمة بين بعضها البعض تناقضات ثانوية، استفادت منها الرّجعية العربية والإمبريالية وشلت وحدة القوى الوطنية وأضعفت دورها في الكفاح من أجل تحرير فلسطين، ومنعت التقدّم في اتّجاه بناء الوحدة العربية، بل إن بعض هذه الأنظمة شارك في العدوان المسلّح على نظام آخر مثلما حصل في العراق من قبل سوريا، واعتبرت ليبيا العدوان على العراق مسرحية من انجاز صداّم حسين والإمبريالية الأمريكية للسيطرة على نفط الخليج.
· كانت رموز هذه الأنظمة تتصارع على قيادة التيار القومي العربي وعلى قيادة الأمة العربية نحو الوحدة والتّحرر. وقد تحول هذا الصّراع على القيادة القومية إلى نقيضه فأصبح صراع اقليمي يدافع عن مصالح طبقية محلية وعن سلطة اقليمية تقيم تحالفات مضرة بحركة التّحرر الوالد العربي.
· عادت هذه الأنظمة الشيوعيين، ونفذّت سلسلة من الإعدامات الرّهيبة ضدّهم ولم تفرّق بين التّحريفيين عملاء الاتحاد السوفياتي المتآمر على القضية العربية وبين الشيوعيين المخلصين.
· لم تسع هذه الأنظمة إلى تطوير تشريعات متقدمة ليتحرّر نصف المجتمع من القيود التي تكبّله. وبقيت المرأة ترزح تحت سيطرة قوانين إقطاعية متخلّفة.
· عالجت بصيغة خاطئة مسألة الأقليات القومية وخاصّة منها الكردية وسمحت بذلك للإمبريالية والصهيونية باستغلال الموقف وتضييق المحاصرة ضدّها.
· لم تكن مواقف هذه الأنظمة من العلاقة بين العروبة والإسلام سليمة. أي العلاقة بين التّيارات القومية والحركات الإسلامية الوطنية. وفجّر النظام العراقي حربا ضدّ ايران إثر سقوط الشاه كلّفت الأمتين خسائر فادحة واستفادت منها الإمبريالية والصهيونية وشركات تصنيع الأسلحة. ونفّذ النظام السوري مجزرة رهيبة في حماه وكذلك النّظام الليبي سنة 1996 في سجن بو سويلم، في حين كان من الممكن تطوير الحوار لعزل القوى المتآمرة وبناء جبهة متّحدة من أجل التّركيم لتحرير فلسطين ودعم الإنتفاضة وتوسيع جبهة المعادين للإمبريالية و الصهيونية.
إن تراكم مجمل هذه الانحرافات والأخطاء اقترنت لاحقا بدخول هذه الأنظمة باب المساومة والمفاوضات من أجل حلّ سلمي للصراع العربي الصهيوني وقبول بالقررات الدولية بل إن بعضها غازل الإمبريالية من بوابة التّطبيع كزيارة حجّاج ليبيين إلى القدس ودعوة إلى قيام دولة “إسراطين” ثم التنكر إلى القومية العربية والدعوة إلى الوحدة الإفريقية وغيرها من المواقف السياسية التي أغضبت الجماهير والقوى الوطنية الصّادقة.
لقد وجدت هذه الأنظمة نفسها- بعد سقوط المعسكر الشّرقي نهائيا ودخوله المنظومة الرأسمالية العالمية وانخراط البعض من دوله في الحلّف الأطلسي- في مواجهة مفتوحة مع العولمة العسكرية والإقتصادية. وكان الحلّ الوحيد أمامها لتدعيم صمودها وتحصين ذاتها انخراطها في المقاومة وتعزيز جبهتها الدّاخلية والجبهة القومية باطلاق المبادرات والحريات العامة والديمقراطية وتلبية حاجيات الجماهير الواسعة وإطلاق سراح المساجين السياسيين والانفتاح على القوى الوطنية الصّادقة. لكنّها راهنت بصفة فاشلة على مهادنتها للإمبريالية وقدّمت تنازلات عديدة لللأعداء عوض تقديم التّنازلات للجماهيرو للمقاومة. فكان انفجار الغضب الجماهيري في ليبيا وسوريا بعد نجاح انتفاضة تونس ومصر واندلاع انتفاضة اليمن.
لقد اختار نظام ليبيا الّذي دعّم الجنرال بن علي إلى آخر لحظة مواجهة المظاهرات بالحديد والنار وكذلك فعل النظام في سوريا وهو لا يزال يقتّل الجماهير منذ خمسة أشهر. إنّه سقوط تجربة تجاوزها الزمن، عمرت طيلة نصف قرن، تجربة البرجوازية الوطنية في الحكم، وقد كان احتلال العراق وسقوط بغداد إيذانا بسقوط هذه التجربة ودعوة لقوى الثورة الأساسية العمال والفلاحون والبرجوازية الصغيرة إلى تصدّر النضال الوطني واحتلال موقعها التاريخي في طليعة النضال الوطني الديمقراطي. لقد انتهى دور البرجوازية الوطنية القيادي لحركة التحرر الوطني الديمقراطي العربي بصفة عملية و ملموسة و بصفة شعبية واسعة. ولكنّ البورجوازية الوطنية لم تنته تاريخيا فهي قوة سياسية واقتصادية قائمة الذات مادامت أمّتنا ترزح تحت هيمنة الامبريالية العالمية والصهيونية و لم تتحرر من هذه القيود.
لقد كان بوسع نظامي ليبيا وسوريا أن يمنعا الامبريالية والرجعية العربية من التدخّل وحبك خيوط مؤامرة قد تهدد بتقسيم القطرين وباندلاع حرب أهلية لأمد غير قصير و بالتدخل العسكري الأجنبي لو استخلصا الدروس من تجربة العراق وقدّما تنازلات للجماهير واختارا طريق المقاومة، لكنّ انتشار الفساد في صفوف السلطة الحاكمة في النظامين وتقلّص قاعدتهما الجماهيرية قطريا وعربيا وارتباطهما بروسيا والصين كسند لهما عوض التعويل على الشعب ،جعلهما يرتكبان أكبر حماقة في تاريخهما، حيث نظّما أبشع المجازر ضدّ الجماهير وشجّعا النعرات القبلية والطائفية وفسحا مجالا خصبا للأعداء للتآمر.
إنّ الجماهير المتظاهرة أو التي رفعت السلاح وقدّمت آلاف الشهداء اختارت إسقاط النظامين، وهي لن تكون مغفّلة وألعوبة في أيدي الامبريالية والصهيونية مثلما يدّعي البعض، فالمغفّل والأحمق هي الانظمة التي راهنت على سكوت الامبرياليين مقابل اسكات صوت الجماهير بالحديد والنار.
خلاصة:
إنّ ما يحصل اليوم في كلّ من سوريا وليبيا لا ينفي جانب التآمر من طرف الامبريالية العالمية ، لكن هذا لا يعني الاصطفاف وراء نظامي القذافي والأسد اللذان لا يمثلان مصالح الجماهير العربية في القطرين، ولم يلبّيا مطالبهما وهما بذلك فسحا المجال للقوى الامبريالية بالتدخّل العسكري في ليبيا ومحاصرة النّظام السوري في انتظار توجيه ضربة قاصمة له.
إنّ الموقف الصحيح في رأينا يتلخّص في:
– تدعيم القوى الوطنية المناهضة للقذافي وللتدخّل الأجنبي في ليبيا والتي تسعى إلى تبنّي مصالح الجماهير، واعتبار ما يسمّى بالمجلس الانتقالي لا يعبّر من قريب أو بعيد عن مصالح جماهير شعبنا في ليبيا.
– وقوفنا المبدئي إلى جانب جماهير شعبنا بسوريا المنتفض من أجل الحرية والكرامة ضدّ نظام يقتّله ويرتكب المجازر في حقه ،عوض أن يوجّه بنادقه الصدئة إلى الأعداء الصهاينة المحتلين للأراضي العربية.
– رفضنا القطعي للتدخلات الأجنبية التي تقودها الامبريالية والرجعية للسطو على الانتفاضات العربية في كلّ الأقطار، و التأكيد على أن الوطن العربي يشهد مرحلة جديدة في تاريخه تمهد التقدم نحو الديمقراطية الشعبية و نحو تحرير فلسطين.
Leave a Reply