الياس خوري  

لا تستطيع ان تحرك زهرة من دون ان تزعج نجماً، بهذه العبارة تدخلنا اميلي جاسر في عوالم وائل زعيتر التي تتأرجح بين الشعر و”الف ليلة وليلة”، والموت. الفنانة الفلسطينية الشابة التي نالت جائزة “هوغو بوس”، التي يمنحها متحف غوغنهايم في نيويورك مرة كل سنتين، لعمل فني معاصر، اخذتنا في تجهيزها المدهش والجميل، الى عوالم الحكاية الفلسطينية، التي تكتب بالدم والمعاناة والشعر والحكاية.
وائل زعيتر الذي اغتاله الموساد الاسرائيلي في روما عام 1972، كان بداية الموت الذي حصد عشرات المثقفين الفلسطينيين في الحرب التي شنتها اسرائيل ضد الثقافة الفلسطينية. وهو يصير اليوم صفحة من كتاب مثقوب بالرصاص. حين قتلوا زعيتر في العاصمة الايطالية اطلقوا عليه ثلاث عشرة رصاصة، واحدة منها اخترقت كتاباً كان يحمله. الكتاب هو “الف ليلة وليلة”، والرصاصة لم تخترقه من طريق المصادفة، فحلم وائل كان ترجمة هذا الكتاب الى اللغة الايطالية، لذا كان يحمله معه في شكل دائم.
شاعر احرق اشعاره قبيل مقتله، وفنان عشق التمثيل والاوبرا، وناطق باسم الحق الفلسطيني المهدور. هذا هو وائل زعيتر، الذي نلتقي به بعد موته بسبعة وثلاثين عاما. نرى صورته مضرجا بدمه، وبحبر الحكاية التي لم يستطع ان يكمل روايتها.
تدخل الى متحف غوغنهايم النيويوركي الساحر بدوائره المفتوحة، لتجد نفسك امام فلسطين وائل زعيتر. هذه الفلسطين تصير مرآة لجيل كامل من المثقفين قضوا اغتيالا. لا تستطيع ان لا ترى وجوه عز الدين القلق وغسان كنفاني وكمال ناصر ومحمود الهمشري، وان تكتشف العمر الذي سرقه الاسرائيليون من كتاب الحياة، الذي كتبه هؤلاء الاصدقاء.
تأخذنا اميلي جاسر الى العوالم الحميمة في حياة وائل زعيتر. نرى الصور والرسائل، ونلمس دفء الحياة. نراه مع ألبرتو مورافيا، ونقرأ رسالة مورافيا الى سارتر من اجل دعم فكرة وائل في إقامة لقاء ثقافي اوروبي من اجل فلسطين. نذهب مع الفتى الفلسطيني الى حكايات غربته في الكويت والمانيا وايطاليا، وصولا الى قبره في مخيم اليرموك في دمشق، حيث لم يسمح الاسرائيليون بدفن جثمانه في مدينته نابلس. نقرأ رسائله، ونكتشف عبق الحياة في تفاصيلها، ونرى كيف يبني الحلم مساراته حول كتاب “الف ليلة وليلة”.
في فيلم “ميونيخ” لسبيلبرغ، رأينا وائلاً يروي حكايات “الليالي”، ورأيناه يموت محتضناً كتابه. لكن ما فعلته اميلي جاسر، يأخذنا الى اماكن جديدة. اذ انها تنطلق من حميمية الصور والرسائل، لتصل الى رمزية القتل، من خلال رمزية كتاب “الليالي”، جاعلةً من حكاية موت هذا الكاتب الفلسطيني جزءاً من الحكاية الكبرى، التي لا نهاية لها.
صفحات الكتاب الممزقة بالرصاص، مصوّرة ومعروضة امامنا. لم يكتف الاسرائيليون بقتل احد ابطال الحكاية، بل حاولوا قتل الحكاية نفسها.
احتفظت جانيت فين براون، صديقة وائل، بالكتاب الممزق مدة ثلاثين عاما، قبل ان تهبه الى مركز وائل زعيتر في ماسا كارارا، بالقرب من توسكانا في ايطاليا.
حكاية وائل نجدها في الثقب الذي احدثته الرصاصة في مئات الصفحات التي يتضمنها الكتاب. ثقب يمحو الكلمات، وحكاية ممحوة بالرصاص!
غير ان الفنانة الفلسطينية ذهبت الى ابعد من ذلك. قاعة كبيرة ورفوف مكتبة وضعت عليها الف كتاب جميع صفحاتها بيضاء، والكتب كلها مثقوبة بالرصاص. أطلقت الفنانة الرصاص من مسدس شبيه بالمسدس الذي استخدمه الاسرائيليون في اغتيال زعيتر على الف كتاب لا تضم سوى صفحات بيضاء.
مشهد الكتب البيضاء المثقوبة مدهش ومخيف في آن واحد. تجد نفسك فجأة امام بياض كاسح، انه بياض الموت، مثلما يعلّمنا كتاب “الليالي” نفسه. في حكاية الملك يونان والحكيم روبان، التي تشكل مرآة العلاقة بين السلطة القمعية والمعرفة، يتخذ الملك المتسلط قراره الأحمق بقتل الحكيم الذي شفاه. يطلب الحكيم فرصة كي يهدي الى الملك كتابا يجعل رأس الحكيم المقطوع ينطق. الحكيم اهدى الى الملك كتابا ابيض مسموما. الملك يفتح صفحات الكتاب بإصبعه التي يبللها بريقه فيسقط ميتاً بالسمّ. فالكتاب الذي لا يروي حكاية، يقود الى الموت. بياض الكتاب وفراغه هو الموت في عينه.
امام البياض الشاسع، الذي تقول الفنانة انه يجسد الف قصة لم تكتب ولن يسمح لها بأن تكتب، يتدلى الموت الذي يعلن موت اللغة.
كتب لا متناهية العدد، ثُقبت بالرصاص، ويسيل منها اللون الأبيض. الأبيض يتحول هنا الى لون اكثر قتامة من اللون الأحمر. طه حسين كتب في “الأيام” انه لا يتذكر من ألوان طفولته سوى اللون الأحمر، بينما اعطى ساراماغو العماء لون البياض.
ابيض اميلي جاسر يأخذنا الى حكمة شهرزاد ولياليها التي لا تنتهي، تهذّر الملك بالصفحات البيضاء التي لا تعلن موت الضحية وحدها، بل تعلن موت الجلاّد ايضا. جدلية السيد والعبد الهيغلية تتخذ في حكايات شهرزاد بعد البياض القاتل. فالبياض ليس فقط كناية عن الف قصة لم ترو، مثلما قالت اميلي جاسر في حوارها مع “نيويورك تايمس” ( ا شباط 2009)، بل هو اشارة الى الموت، حين تنتفي القصة، او حين يحرم المجرم القصة من إمكان ان تتكامل.
وضع وائل زعيتر فلسطين في اطارها الحكائي. انها جزء من “الليالي العربية”، هذا هو الاسم الذي اطلقه المترجمون الانكليز على الكتاب. وهي في هذا المعنى، تقدّم امثولة رمزية، او كناية للألم الانساني، الذي تجسده الحكاية الفلسطينية في ابعادها المختلفة.
التقطت اميلي جاسر هذه الحقيقة، وكتبتت باللون الأبيض، ما كتبه القاتل الاسرائيلي باللون الأحمر. ابيض الضحية ينتصر على احمر الجلاّد. وائل زعيتر الذي لم يترجم كتاب “الف ليلة وليلة” الى الايطالية، صار هو الترجمة والكناية في آن واحد.
وقفتُ امام البياض الهائل، ورأيتُ في الثقوب، الحكاية التي كُتبت، وتُكتب كل يوم. بياض الموت، يعبّر عن عجز القاتل عن الكلام، اما الضحية فتكتب الحكاية التي تستطيع ان تهزم التاريخ الأعمى.

Advertisement