أغرب ما في هذا الزمن هو كيفية تعاطي بعض قدامى اليسار العربي من بقايا ديناصورات الأحزاب القومية والماركسية البائدة مع الثورات العربية الراهنة والثورة السورية تحديداً… إذ تراهم لا يكتفون باشتراط شروط تعجيزية على الشعب السوري وثورته بل يذهبون في تحليلاتهم وتنظيراتهم الى رفض أي ثورة أو تمرد بحجة أن الاسلاميين والسلفيين (فزاعاتهم الجاهزة للاستخدام غب الطلب) سيستفيدون وسيصلون الى الحكم…ولا شك أن ثوريينا هؤلاء لا يعرفون تاريخ الثورات في العالم، حتى تلك التي يدعون الانتساب الى تراثها..

يتناسى هؤلاء أن ثورة 1789 الفرنسية الأولى في التاريخ الحديث والتي ألغت الامتيازات الطبقية وحطمت الاستبداد ورمزه سجن الباستيل وأذاعت الاعلان الأول لحقوق الانسان والمواطن…سقطت بعد سنوات قليلة بأيدي الارهاب (1793) ثم بيد الجنرال نابليون بونابرت.. فهل كان الفرنسيون على خطأ حين ثاروا؟

ويتناسى رفاقنا الأعزاء أن ثورة 1830 الرائعة والتي قام بها كادحو فرنسا وبلجيكا وبولندا قد انتهت الى عودة الملكية في والرجعية الأوروبية والى بداية استعمار الجزائر…

وان ثورة 1848 التاريخية التي هزت عروش أوروبا وأدت الى الغاء العبودية واسقاط الملكية وتحقيق التصويت الشعبي وحرية الانتخابات والاستفتاءات.. هي الثورة التي انتخبت لويس بونابرت الذي رفض تسليم الحكم عند انتهاء مدته وقام بالانقلاب الشهير المعروف باسم 18 برومير… وهو الانقلاب الذي اضطر فيكتور هوغو بسببه للمنفى الاختياري ولتستمر امبراطورية لويس بونابرت 18 سنة !!!

فهل أخطأ الفرنسيون بالثورة وبقلب الملك وبالغاء الظروف الطبقية المخيفة التي كانت تحكمهم؟وهل هم من مهد بثورتهم الطريق للديكتاتور؟ وهل كان شهداء تلك الثورات من السذج؟؟

وفي 4 أيلول 1870 أعلنت الجمهورية للمرة الثالثة في باريس..ووصل الى الحكم عام 1871 أكثرية ملكية وعلى رأس حكومتها الشقي أدولف ثيير الذي خلد اسمه في التاريخ باعتباره جزاراً أصولياً ومتعاملاً مع العدوان البروسي؟ فهل كان على الطبقة العاملة والشعب الفرنسي والجمهوريين عدم مقاومة الحصار البروسي وعدم تشكيل حكومة الدفاع عن الوطن؟ وهل كان على الباريسيين عدم خوض الكومونة وعدم مقارعة السماء (كما وصف ماركس حركتهم)؟

ينسى المتذاكون الجدد أن الحريات الأساسية والديموقراطية ودولة الحق والقانون والمؤسسات التي ينعم بها الفرنسيون والأوروبيون هي ثمرة هذا الكفاح الطويل وتلك التضحيات الجسيمة…أما لحظات الانكسارات والتراجعات التي يمكن أن تواكب أي ثورة وأي حركة اجتماعية جماهيرية فهي لا تلغي أبداً تلك اللحظات التاريخية الجميلة التي صنعت بها الشعوب وحدتها وحريتها وكرامتها في أتون الكفاح والتضحيات…

وإلا فماذا نقول عن الثورة البلشفية التي انتهت الى الستالينية والى السقوط بعد سبعين سنة من قيام الاتحاد السوفياتي العظيم؟ وماذا نقول عن فيتنام وكمبوديا؟ وعن جزائر المليون شهيد؟ وعن حركة تحرر واستقلال أفريقيا وآسيا؟ وعن حركة عدم الانحياز؟ وعن الصين الشعبية والثورة الثقافية؟ الخ..

لو أن البشرية لحقت بهذا المنطق الأخرق المنافق الذي يقول بوجود خطر يتهدد  الثورات ويتمثل في انتصار أو صعود قوى معينة الى السلطة (مثل الأصولية والسلفية عندنا كما يزعمون) لما قامت أي ثورة في التاريخ ولما تحرر أي شعب في العالم…

ها نحن اليوم أمام ثورات كنا نحلم بها منذ عقود وقد أفنينا عمرنا وشبابنا في التنظير لضرورتها وفي انتظار قيامها… ها نحن أمام حركات اجتماعية تهز العالم العربي وتسمح للشعوب بامتلاك مصيرها بيدها وتحررها من التوازنات الاستبدادية المحلية والاقليمية والدولية…في حين يستمر بعض مستحاثات اليسار المحنط  في ترداد مقولات عفى عليها الزمن وفي كتابة التاريخ بأدوات مفاهيمية مستمدة مباشرة من شعارات مرحلة بائدة..

نعم إنه لأمر محزن وقاس لكنه الحقيقة: الجمود والبلادة وثقل الدم وانعدام الاحساس، هذا ما يميز بعض اليسار القديم (العربي والأوروبي) في موقفه من الثورات العربية..

Advertisement