المستقبل – الأربعاء 2 تشرين الأول 2013 – العدد 4823 – ثقافة و فنون – صفحة 20

http://www.almustaqbal.com/storiesv4.aspx?storyid=589451
حزب الله” والمشاركة السياسية

صدر كتاب مهم لمجموعة مؤلفين بعنوان “الاسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي” (عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”. وقد شارك في وضع هذا الكتاب المتنوع القراءات والزوايا والمقاربات مجموعة من الاختصاصصيين والمحللين: أمجد جبرون، أنور الجمعاوي، حمادي ذويب، خليل العناني، رشيد الجنون، رشيد مقتدر، سعود المولى، شمس الدين ضو
البيت، طلال عتريسي، عبد الوهاب الأفندي، فرح كوثراني، كمال عبد اللطيف، محمد السيد سليم، مروة فكري ومعتز الخطيب. وقد اخترنا جزءاً
من دراسة سعود المولى “حزب الله”: مشروع قراءة سوسيو تاريخية” الجزء الذي اخترنا من عنوانين “حزب الله والمقاومة الاسلامية”، و”حزب الله والمشاركة السياسية في لبنان
“.

[ “حزب الله”
والمقاومة الاسلامية
لم يكن من الممكن أن ينجح تشكيل حزب الله لولا الاحتلال الاسرائيلي (1982) وتحالف بعض اللبنانيين معه، ولولا انهيار منظمة التحرير الفلسطينية وخروجها من بيروت والجنوب، ولولا الحرب السورية على منظمة التحرير لإخراجها من البقاع أولاً، ثم من الشمال (1983 1985)، لذلك لم يقرر
الايرانيون الاعلان عن تشكيل حزب الله رسمياً قبل انتهاء تفاعلات الأمور المذكورة أعلاه.
ان انطلاق حزب الله بدعم ايراني كبير (الرسالة المفتوحة في 16 شباط/فبراير 1985) مع دخول حركة أمل دائرة الامساك بالموقع الشيعي في السلطة السياسية (منذ انتفاضة 6 شباط/فبراير 1984 التي جعلت أمل والوحدات الشيعية في الجيش اللبناني تسيطر على العاصمة بيروت)، ثم التحول الكبير في الاتحاد السوفياتي بعد صعود غورباتشوف (1985) وفي أثر ذلك تصفية مواقع التدخل الروسي في العالم الثالث عموماً، والبلدان العربية خصوصاً، ما سمح بحدوث تحولات سياسية عميقة في العديد من الدول (عدن الجزائر السودان العراق وحتى سورية..)، ان كل ذلك عجل بحصول تطورات هي أشبه بانقلابات جذرية، حيث شهدت الفترة بين عامي 1985 و1988 مسارعة سورية للامساك بالورقة اللبنانية عبر سلسلة من الهجمات كان الاتفاق الثلاثي أبرزها. لكن هذا الامساك كان يستدعي تصفية النفوذ الفلسطيني تماماً، ما جعل المراقبين والمحللين يضعون سلسلة الاغتيالات التي طالت الكوادر الفتحاوية التي كانت تحاول اطلاق مقاومة اسلامية سنية في سلة المسعى السوري: من عصمت مراد وخليل عكاوي ومصطفى كردية ورفاقهم في طرابلس، الى سمير الشيخ وعائلته في بيروت، الى علي أبو طوق في مخيم شاتيلا وانتقلت الاغتيالات الى القيادات السنية الرسمية مثل الشيخ الدكتور صبحي الصالح والمستشار محمد شقير والصحافي سليم اللوزي والنائب ناظم القادري، وصولاً الى مفتي لبنان الشيخ حسن خالد… غير أن أبرز وأخطر تلك المحطات كانت حرب المخيمات بين حركة أمل والفلسطينيين (1985 1988) التي كانت امتداداً لحرب طرابلس بين أنصار عرفات وأنصار سورية… وترافق معها الامساك السوري بالحزب السوري القومي (1987 1988) بعد اغتيال محمد سليم وإيلي الجقل وتوفيق الصفدي ومقتل العشرات في حرب داخلية بمنطقة الكورة في شمال لبنان… وصولاً الى حملة اغتيال كوادر الحزب الشيوعي (1986 1987)، في بيروت والجنوب (ميشال واكد وحسين مروة وحسن حمدان وخليل نعوس وسهيل طويلة ونور طوقان…)، وأخيراً حرب بيروت في شباط/فبراير 1987 والتي أعادت القوات السورية الى العاصمة، وتخللتها مذبحة شارع فتح الله الشهيرة ضد حزب الله التي فسّرت يومها على أنها رسالة أو إشارة الى الأميركيين والاسرائيليين ان الدخول السوري وحده قادر على لجم الحزب والاسلاميين وعلى تحرير الرهائن الغربيين. أدت هذه التطورات مجتمعة الى تشكل وضع جديد في لبنان بدأ مع توقيع اتفاق وقف اطلاق النار بين ايران والعراق (تموز/يوليو 1988) ولم ينته مع انهيار الاتحاد السوفياتي (1990) أو حرب الخليج الأولى التي اشتركت فيها سورية الى جانب قوات التحالف الغربي بقيادة أميركا (1991). هذه الأوضاع والأجواء هي التي مهّدت ورسمت طريق اتفاق الطائف. وكان قد رافقه ظهور الحلف الأميركي السوري في وجه العماد ميشال عون من جهة، كما في وجه عرفات من جهة أخرى. ولا بد هنا من التذكير بأن الطائف كان برعاية أميركية سعودية سورية، ونتج منه ترسيم جديد للقوى والتحالفات والمواقع، في لبنان، بين سوريا وإيران والسعودية.
ليس المجال هنا لتحليل أحداث 1985 1991 التي سبقت ومهّدت لاتفاق الطائف. لكن أبرز ما فيها هو الصراع الشيعي الشيعي المسلح بين حركة أمل وحزب الله (1988 1991) الذي كان سببه المعلن رفض حزب الله للقرار 425 الصادر عن مجلس الأمن في آذار/مارس 1978 الذي يدعو الى انسحاب الاحتلال الاسرائيلي من جنوب لبنان ويشرعن وجود القوات الدولية التابعة للأمم المتحدة. ونتج من هذه الحرب الداخلية 2500 قتيل من الطرفين ومن المدنيين الشيعة في الضاحية الجنوبية والجنوب والبقاع، وأدى في ما أدى اليه الى سيطرة حزب الله على الجنوب تماماً بعد اتفاقات عدة رعتها سوريا في دمشق. وما أن جاء عام 1992 حتى كان الحزب هو الجهة الوحيدة المسموح لها بالعمل في جنوب لبنان.
كانت الانطلاقة الجديدة للمقاومة الاسلامية بعد عام 1992، وصارت وحدها المخولة بالعمل العسكري والأمني في الجنوب، ثمرة حقيقية لتوافق ايراني سوري (مبارك عربياً وأميركيا) حصر التمثيل الشيعي بحركة أمل وحزب الله على حساب الآخرين بمن فيهم المجلس الشيعي وإمامه محمد مهدي شمس الدين. وأدت وفاة الإمام الخميني وانتهاء الحرب مع العراق وولادة محور غربي عربي جديد في وجه صدام حسين (أميركا السعودية الخليج مصر) الى انضمام سورية الى هذا المحور… ولا بد هنا من اعادة التذكير بأن الغطاء المصري السعودي طوال تلك المرحلة، والرضا الأميركي الأوروبي، هو الذي أمّن الدعم لسوريا والمقاومة على السواء، اضافة الى القبول الايراني بعد انتصار تحالف رفسنجاني خامنئي الاصلاحي الذي بدأ سياسة الانفتاح على الغرب وأميركا ووقف سياسة تصدير الثورة والمغامرات.. كل ذلك سمح بالدعوة الى انهاء الحرب في لبنان، وبالتالي فإلى اتفاق الطائف الذي وضع أسس لبنان الجديد، والذي أكد شرعية المقاومة وأعطاها حصانة الالتفاف الشعبي والإجماع الوطني… وجاءت القمة الروحية الجامعة والتاريخية في بكركي في 2 آب/ أغسطس 1993 (في أثر عدوان تموز/يوليو الكبير) ثم وثيقة اللجنة الوطنية للحوار الإسلامي المسيحي الممثلة رسمياً للمرجعيات الروحية (في تموز/يوليو 1995)، ثم الأداء المميز للرئيس الراحل رفيق الحريري خصوصاً في صناعة تفاهم نيسان/ابريل 1996، وفي تدعيم التفاهم العربي الدولي الحامي للمقاومة ولسوريا معاً، كما بيانات الحكومات المتلاحقة التي شكلها، جاء كل ذلك ليحول الاجماع الوطني الى حقيقة ملموسة عبّرت عن التوافق على أمرين: الأول، عدم ادخال العامل الاسرائيلي في أي تناقض داخلي، أي إنهاء ذلك التاريخ الأسود والمشؤوم الذي “اضطر” فيه بعض الأطراف الى اللجوء للعون الاسرائيلي”. والثاني عدم طرح موضوع الانسحاب السوري قبل إنجاز التحرير من الاحتلال الاسرائيلي.. وتلا ذلك التفاف شعبي مسيحي اسلامي حول المقاومة لم يسبق له مثيل، رافقه إعجاب شعبي وسياسي بأداء حزب الله في تلك المرحلة.
[ “حزب الله”
والمشاركة السياسية
في وثيقة داخلية صدرت في أيار/مايو 2007 يحدد حزب الله فهمه للسياسة كما يلي: “إن بناء مفهوم للسياسة يقوم على ربط الداخل بالخارج وأخذ ذلك في الاعتبار في رسم المواقف والبرامج السياسية هو مسألة علمية قبل أن تكون سياسية. وهذا ما لحظه حزب الله بصورة أساسية في مقاربته للسياسة في لبنان. فالخارج هو الذي يستهلك طاقة الصراع ودينامياته وتوتراته، بينما تشكل العلاقات في الداخل دوماً على أساس التكامل. ولا يحضر الصراع داخلياً إلا حين ارتباطه بالخارج ولا يمارس عندها الا وفق الحد الأدنى الذي تفرضه الضرورات الطبيعية للسياسة”.
لم تكن الصورة واضحة عند الحزب في الدخول الى المجلس النيابي أو عدمه، ما استلزم نقاشاً داخلياً موسعاً في شأن هذا الأمر “فاختارت الشورى آلية لحسم الأمر بتكليف لجنة من 12 عضواً من أبرز الفاعليات الحزبية بمن فيهم أعضاء الشورى لصياغة الموقف النهائي المقترح”. وعقدت جلسات مكثفة لهذا الشأن، وأبدى مسؤولو الوحدات المركزية آراءهم من خلال مجالسهم، فجمعت اللجنة المكلفة الآراء”. “وفضّلت اللجنة استكمال النقاش… لوضع المعطيات الكاملة بين يدي الولي الفقيه، بغية تحديد الموقف الشرعي من التعاطي مع النظام وبالأخص في مسألة الانتخابات النيابية”… “ثم جرى استفتاء سماحة الولي الفقيه الامام الخامنئي حول المشروعية بعد تقديم اقتراح اللجنة فأجاز وأيّد، عندها حسمت المشاركة في الانتخابات النيابية، ودخل المشروع في برنامج وآلية عمل الحزب”.
في عام 1993 سأل المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين قادة حزب الله: هل تريدون فعلاً لبنان؟ وإذا كان نعم فهل حقاً تريدون جمهورية ديمقراطية برلمانية لبنانية؟
اليوم فإن السؤال الذي نطرحه هو هل يريد حزب الله فعلاً المشاركة السياسية أم أنه يعمل على بناء دولته الخاصة البديلة(1)، أي دولة داخل الدولة(2)؛ أم إنه يعمل لشيء آخر تماماً؟؟
أنا أرى أن حزب الله لا يحتاج الى اعلان برنامج لحكومة اسلامية أو لتطبيق الشريعة كما تصور البعض مقارنين بينه وبين غيره من الأحزاب الاسلامية العربية التي حملت هكذا مشروع. فحزب الله حزب شيعي أولاً وأخيراً، وحزب موجود في لبنان بلد الطوائف والتوازنات الطائفية الحساسة، وحزب الله صار منذ عام 2005 الممثل السياسي والأيديولوجي والعسكري والاجتماعي الشرعي والوحيد للطائفة الشيعية اللبنانية (الطائفة الأكبر عددياً). وفي ذلك يقول نواف الموسوي: “يجب أن يعمل حزب الله بحيث يشعر شيعة لبنان انهم بحاجة اليه، ونحن يجب أن نستخدم كامل قدراتنا وإمكاناتنا لنصبح أقوى وأكثر تجذراً في طائفتنا، وحين تلتحم مصالح الشيعة بنا فإن ضعفنا سينعكس عليهم، لذلك سيدعموننا، يجب أن يستقر حزب الله في اطار الطائفة الشيعية، لأن وجوده في خارجها سيسهل ضربه(3).
لم يكن الحزب يحتاج الى تقديم نموذج اسلامي بديل كما هي حال حماس في غزة، ولا نموذج معارضة ديمقراطية حيوية كما هي حال الأحزاب الاسلامية في تركيا ومصر وتونس والمغرب… الخ. وما عاد الحزب يمثل مقاومة وطنية ضد الاحتلال بعد عام 2000، وبالتحديد أكثر بعد حرب تموز/يوليو 2006 والقرار 1701. كما انه لم يعد يمثل معارضة شعبية من خارج الحكم بعد عام 2005، وبالتحديد أكثر بعد حركة 7 أيار/مايو 2008 المسلحة والاستيلاء على بيروت، واتفاق الدوحة الذي تلاها، بل صار الحزب فعلياً يمثل الطائفة الشيعية اللبنانية وهي في قمة صعودها وحيويتها وبحثها عن الحفاظ على مكتسباتها عبر تطوير قوتها.
أمكن تحقيق التماهي بين الحزب وجمهور الطائفة في ظروف جديدة تماماً لم يسبق أن توافرت في ما سبق:
ـ وجود مركز شيعي قوي في ايران الشيعية يحمل استراتيجية هجومية لتأكيد مصالحة ولفرض وجوده (وإيران دولة كبيرة وغنية وربما نووية).
ـ غياب قيادات اصلاحية تاريخية (محسن الحكيم والخوئي في العراق، موسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين في لبنان، خاتمي ومنتظري وكروبي وموسوي في ايران).
تغييب النجف منذ وفاة السيد الحكيم في عام 1970، ثم تحديداً بعد حملة القتل في عامي 1975 1980) التي انتهت باغتيال محمد باقر الصدر وتشريد الآلاف من العلماء، ونشوء موقع قم الديني باعتباره بديلاً من النجف منذ عام 1980، ثم باعتباره مركزاً وحيداً للشرعية الدينية الشيعية.
ـ خروج منظمة التحرير الفلسطينية حامية السُّنّة في لبنان بعد سلسلة حروب بين عامي 1984 1988.
ـ الصعود المالي والعسكري لإيران والحزب ووصول أحمدي نجاد ومعه الحرس الثوري والتيار المهدوي الى السلطة في إيران.
ـ انهيار النظام الاقليمي العربي منذ حرب الكويت (1990 1991).
ـ انهيار التوازنات الاستراتيجية الدولية منذ سقوط الاتحاد السوفياتي في عام 1991، ثم بعد ذلك 11 أيلول/سبتمبر 2001 فالحرب الأميركية على الاسلام وعلى إيران.
ـ صعود الشيعة والأكراد في العراق بعد سقوط نظام صدام في عام 2003.
ـ انهيار الوضع المسيحي في لبنان بعد 25 سنة من الحرب الأهلية.
ـ انهيار الوضع السُّني اللبناني باغتيال الرئيس الحريري (14 شباط/فبراير 2005).
ـ أزمة النظام المصري من جهة، وأزمة الوضع السعودي والباكستاني من جهة أخرى، مع سقوط النظامين العراقي والأفغاني، وصعود القاعدة، كل ذلك طرح أزمة الشرعية السُّنية (قبل الربيع العربي).
ـ خروج الجيش السوري من لبنان وانهيار المعادلة اللبنانية الداخلية(4).
من هنا نقول ان استراتيجية حزب الله الفعلية ليست في اقامة دولة اسلامية، فهذه الدولة موجودة في إيران؛ ولا المشاركة السياسية الديمقراطية في الحكم، إذ ان المشاركة الفعلية تعني المسؤولية الكاملة عن الكل؛ فيما المشاركة بعرف الشيعية السياسية هي التقاسم (Partage) لا الـ(Participation). وهذا جعلنا نسمي سياسة حزب الله بالشيعية السياسية التي تعمل على استراتيجية للهيمنة تسمح لها بأن تكون اللاعب الأوحد في البلاد… وقد مر الحزب على صعيد تطبيق استراتيجية الهيمنة بمرحلتين:
ـ مرحلة التمهيد والدعوة للجمهورية الاسلامية في لبنان بين عامي 1980 و1992، عنوانها: الرسالة المفتوحة الموقف السلبي من الميثاق والكيان اللبناني ومن الدستور من الجمهورية الديمقراطية البرلمانية الموقف السلبي من الحوار الاسلامي المسيحي الموقف السلبي من كل أشكال المشاركة في الحكم الصراع المسلح مع حركة أمل التأسيس الكامل لمجتمع ودولة خارج المجتمع والدولة.
ـ مرحلة الدخول التدريجي في الحكم عبر استراتيجية المشاركة السياسة (1992 2005) التي هي في الواقع استراتيجية تحقيق الهيمنة الطائفية (أو الشيعية السياسة) المرتكزة على العوامل كلها المذكورة أعلاه، والمستفيدة خصوصاً من عاملي العدد والقوة المسلحة.
إلا أن هذه الشيعية السياسية الجديدة تحمل سمات خاصة تجعلها تختلف عن المارونية السياسية القديمة، وذلك لأسباب عدة:
ـ المارونية السياسية (باعتبارها مشروع هيمنة لطائفة محددة) ورثت دولة حديثة كانت تحضنها فرنسا (السيطرة الفرنسية 1920 1940 وتشكل لها ادارة شبه كفوءة. في حين أن الشيعية السياسية ترث دولة فاشلة شبحية، وإدارة فاسدة رثة ومنهارة بعد 30 عاماً من الحروب الأهلية.
ـ المارونية السياسية جاءت في ظرف اقليمي ودولي (1945 1970) ساعد في بحبوحة اقتصادية ونمو اجتماعي وانتشار للتعليم الثانوي والجامعي، أفرز طبعة وسطى متعلمة ودينامية، ومن الطوائف كلها. في حين أن الشيعية السياسية تأتي في ظرف انحسار النمو الاقتصادي والاجتماعي، وانهيار الطبقة الوسطى المدينية، وترييف المدينة، وانهيار في مستوى التعليم، وأزمة خدماتية خانقة، وصعود الهويات الضيقة (العشائرية والمذهبية) في كل مكان.
ـ أعطى النظام العربي الرسمي آنذاك شرعية لدور لبنان الكومبرادوري في محيطه العربي ما سمح للمارونية السياسية من تحقيق اختراقات اقتصادية وتجارية في أكثر من دولة عربية أتاح لها الاستفادة من هجرة الشباب اللبناني الى دول الخليج وأفريقيا كما الى أوروبا والأميركتين… فائض التحويلات الخارجية هذا شارف على النضوب مع تفاقم أزمة الوجود الشيعي في بلدان الخليج والعالم بسبب الموقف إيران وحزب الله.
ـ في زمن المارونية السياسية كانت الثقافة الحداثوية هي القاسم المشترك بين نخب متعلمة من مختلف الطوئاف، أما اليوم فإن ثقافة القبيلة والعشيرة والطائفة والمذهب هي الغالبة، فضلاً عن ثقافة الحرب والاحتراب والفتنة والتكفير والتصلب والحدّية في التعامل مع الآخر المختلف ومع التعددية.
ـ سمحت الديمقراطية الليبرالية (بفضل تشريع وقوننة التعدد الطائفي) بتحول لبنان الى منطقة حريات اعلامية وسياسية لم توجد في غيره، الأمر الذي لا يستقيم مع سيطرة حزب الله. فالشيعية السياسية (نسخة حزب الله) لا تنفصل عن فكر المهدوية الايرانية وعن صعود التطرف الأصولي في الجانبين السُّنّي والشيعي، ولذلك فإنها محكومة بالأصولية وقمع الحريات.
[ خلاصة
عرف حزب الله منذ البداية أنه لا يستطيع في بلد مثل لبنان متعدد الطوائف ومحاط برعاية عربية ودولية الامساك بزمام السلطة والحكم بشكل مباشر(5).
علاقات الحزب الدولية والعربية متوترة مع الدول كلها ذات الدور أو الحضور في لبنان (باستثناء سورية وايران). كما لا طاقة له على الاحتلال المباشر لمواقع السلطة وإدارة الكيان اللبناني مباشرة، ليس لضعف او لخلل في جهازه الاداري وإنما لأنه لا يريد حمل مسؤولية هكذا إدارة مباشرة في حين أنه يجني كل ثمارها بشكل غير مباشر. لذا استعاض عن ذلك باستراتيجية اللاعب المهيمن الذي يستطيع أن يفرض أجندته ويحقق كامل مصالحه من دون الحاجة الى التورط المباشر في تحديات اقليمية ودولية وداخلية.
من سياسات الحزب أيضاً الابقاء على التشكيلة الدينية والطائفية الموزعة على المناصب الحكومية والسيادية، لكن من دون أن تملك هذه القيادات أي سلطة حقيقية “تمارسها قبل العودة الى موافقة الحزب أكان من خلال إمساكه الفعلي بمواقع السلطة الفعلية (التعطيل في الحكومة والبرلمان والتهديد بالشارع في كل حين، فضلاً عن السلاح الممنوع الكلام عنه وفي شأنه)، أو في المواقع الادارية الرئيسة أو من خلال قوته الفعلية: الغلبة الشيعية العددية والتوزع والانتشار الجغرافي الاستراتيجي والتماسك الايديولوجي العسكري الأمني والصلابة الدينية العقائدية والقدرات المالية واللوجستية الهائلة… الخ.
لكل هذه الأسباب لم يطوّر الحزب (ولا يستطيع) مشاركته السياسية في الحكم الى مشروع لبننة حقيقي من جهة، كما لم يطور (ولا يستطيع) وضعه التنظيمي الداخلي بشكل ديمقراطي من جهة أخرى، فهو ليس حزباً ديمقراطياً معارضاً من داخل السلطة، حيث إنه لا يفعل سوى تعطيل هذه السلطة والتنعم بامتيازات الحكم في آن معاً؛ وهو ليس حزباً ثوروياً معارضاً من خارج السلطة، إذ هو لا يشارك في السلطة فحسب بل هو الحزب الأقوى والأقدر على فرض شروطه من داخلها ومن خارجها في آن معاً؛ وهو ليس مقاومة بالمعنى المعروف للمقاومة الوطنية التحريرية، إذ هو صار أشبه بالجيش النظامي الكامل العدة والتسليح والخاضع لقيادة عمليات مركزية.

[ الهوامش
(1) بحسب كتاب شرارة، دولة حزب الله
(2) بحسب اتهامات قادة 14 آذار.
(3) مقابلة أجراها الباحث مسعود أسد اللهي مع الموسوي في أيلول/سبتمر 1992، أنظر كتابه: الاسلاميون في مجتمع تعددي، ترجمة دلال عباس (بيروت ، الدار العربية للعلوم، 2004) ص 1997.
(4) “مصادر قيادية في حزب الله تؤكد أن قيادة الحزب اتخذت خلال عدوان تموز/يوليو 2006، وفي ضوء المعطيات التي توافرت لديها آنذاك، قراراً حاسماً بتغيير المعادلة السياسية الداخلية واعتماد كل الوسائل والأساليب الدستورية والشعبية لتحقيق هذا الهدف مهما بلغت التضحيات، وأنه لا يمكن ابقاء المعادلة التي كانت قائمة بعد الخروج السوري من لبنان” أنظر: قاسم قصير، موقع ناو ليبانون، 15/5/2007.
(5) بعد انسحاب القوات السورية من لبنان في نيسان/ابريل 2005 شعر حزب الله بأنه مضطر الى المشاركة في الحكومة لتأمين توازن بين القوى اللبنانية المختلفة وحماية موقف لبنان الدقيق في المعادلة الاقليمية، تؤكد الورقة التي كتبها رئيس المركز الاستشاري في الحزب النائب الحالي علي فياض “ان الحزب مصرّ على التمسك بالنظام السياسي اللبناني الذي تستند ديمقراطيته الى قاعدة التوافق، وأنه يؤيد دولة قوية ومركزية” (علي فياض، “حزب الله والدولة: المواءمة بين الاستراتيجيا الوطنية والدور الاقليمي”، أنظر:
.dirasat.net/ar/actdetails.php?cermony=14 www

Advertisement