رلى راشد- جريدة النهار-بيروت
29 تشرين الثاني 2013

“آل رومانوف – سلالة تحت حكم الدم”، بحث في العلوم السياسية، يُقرأ كرواية تاريخية ممتعة. لا يتّكل نص المؤرخة هيلين كارير دانكوس على الماضي فحسب وإنما يسعى الى استشراف المستقبل، في حركة اعتادتها ثالثة السيدات اللواتي دخلن تحت قبة “الأكاديمية الفرنسية” والتي توقّعت، مبكرا، تفكك الاتحاد السوفياتي. على هامش مشاركتها في “معرض الكتاب الفرنكوفوني” في بيروت، التقيت في قصر الصنوبر، الباحثة المتخصّصة في الشؤون الروسية، والسيدة المدركة ان الكلمات مساوية لحريّة الفرد.
– يستعيد بحثك “آل رومانوف – سلالة تحت حكم الدم” ثلاثة قرون من التاريخ الروسي عبر سلالة رومانوف وشخصيّاتها الثلاث الرمزيّة، بطرس الأكبر وكاترين الثانية وألكسندر الثاني. حاول هؤلاء انتزاع روسيا من رجعيّتها عبر “أوربتها”، أحيانا قسراً. أبدت النخب السياسية الروسية أخيراً خشيتها من إبعاد بلادها الى تخوم الإتحاد الأوروبي الموسّع، فهل يظل سؤال ” روسيا أوروبية” آنيّاً؟
– لطالما كان آنيّا، منذ القرن الثالث عشر عندما انتزع شعب التتار روسيا من أوروبا واستمر في القرن السادس عشر عند هزيمة التتار حين سأل ايفان الرهيب كيف نستعيد مكاننا في أوروبا؟ تصيبين في القول ان تاريخ سلالة آل رومانوف ارتبط بالسعي الى إعادة روسيا الى أوروبا، والحال ان تغييرا جذريا طرأ مع الثورة الروسية. أراد لينين قيام الثورة في سويسرا او ألمانيا، لتحصل في روسيا ويعدّل نظريّته معلناً ان روسيا باتت متقدّمة على أوروبا بل أكثر، صارت مثالاً لها. مع سقوط الشيوعية في 1992، أكّد الروس انتماءهم الأوروبي، وسعى الرئيس يلتسين الى تحقيق ذلك. لكن خلال نحو عقد، تسبّب تفكيك النظام القديم وعمره خمسة وسبعون عاما، بفوضى عارمة. كانت تلك سابقة تاريخية ان يتبدّل نظام سياسي على نحو جذري، في فترة وجيزة الى هذا الحدّ. نظرَت أوروبا الى هذه الفوضى بشيء من الريبة ونأت بنفسها عن الشؤون الروسية. خلال تلك الفترة، غرقت روسيا في كارثتها مقتنعة ان ما تبنيه سيساعدها على استعادة مكانتها في أوروبا. لكن توسيع الإتحاد الأوروبي عقّد المسألة بعدما شمل دولا أرادت تصفية حساباتها مع روسيا، كبولونيا والمجر وتشيكيا وسواها. لم تحقّق نهاية الشيوعية الأعاجيب، فبقيت هذه الدول على حذرها من روسيا. كان ثمة سوء فهم بين أوروبا وروسيا، ولم يعنِ خروج روسيا من الشيوعية استعادة دعوتها الأوروبية. روسيا بلاد ذات حضارة أوروبية وإنما احتاجت الى إيجاد طريقها. فقدت روسيا مئة مليون نسمة وعشرين في المئة من أراضيها مع سقوط الإتحاد السوفياتي، لكنها بقيت أكبر البلدان الأوروبية. كان عليها الصعود من جديد، فنظرت صوب واجهتها الآسيوية واعتمدت ورقة أوراسيا. يشير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الى الخاصيّة الروسية، فبلاده ذات حضارة أوروبية لكنه يؤكد ان ديموقراطيتها مطبوعة بالتقليد الروسي.
– في 2004 اعتبر المرشح للإنتخابات الرئاسية فلاديمير بوتين الصراع في الشيشان ضروريا لتفادي تفكّك بلاده. في كتابكِ “الأمبراطورية المفكّكة” (1978)، استشرفتِ نهاية الإتحاد السوفياتي بدءا من جمهوريات آسيا الوسطى المسلمة، التي تحققت من بلدان البلطيق. فهل انتعش العنصر الإنفصالي الإسلامي اليوم في ظل “جهاد الشباب الشيشاني في سوريا” الذي أقرّ به الرئيس الشيشاني رمضان قادروف؟
– أثقلت المسألة المسلمة على نهاية الإتحاد السوفياتي من دون وجود حركة انفصالية إسلامية آنذاك. لكن العالم الروسي المسلم، لطالما اختلف عن العالم الروسي في الإجمال، أي الأرثوذكسي. عند سقوط الإتحاد السوفياتي، أعلن الرئيس يلتسين عدم قابلية الحدود الروسية بدءا من تلك اللحظة، للتعديل. تطوّرت الحركات الشيشانية ضمن هذه الحدود. مشكلة الشيشان قديمة مذ غزت الأمبراطورية الأراضي في سرعة هائلة. استمرّت الحرب الشيشانية طويلا، وبينما استسلم السهل لم يتصالح الجبل الشيشاني يوما مع الأمبراطورية الروسية. ثمة حيثية خاصة في الشيشان وفي كل القوقاز الشمالي حيث شعوب متشعبة تتحدّث لغات مختلفة وتضمّ مقاتلين يشبهون الشيشانيين. جرى إحصاء مئة لغة في الإتحاد الروسي، فكيف التعاطي مع هذا الواقع؟ في هذه الجمهوريات مجتمع عشائري وإسلام مطبوع بالصوفيّة وله تقاليده الخاصة جدا ولا يخضع للسلطات المسلمة الكبرى. القوقاز الشمالي كتلة واحدة. ليست الشيشان المنطقة المسلمة الوحيدة ضمن الإتحاد الفيديرالي الروسي. ربما تشهد كل منطقة الفولغا حركات إستقلالية. كانت الشيشان رمزاً، والآن هدأت. تحدّثتُ الى الرئيس بوتين في المسألة، فعاتبني لأني كتبت انه ينبغي لروسيا التخلّي عن الشيشان لتتفادى مشكلات جمة. قال إذا حصل ذلك فسينسحب على المناطق المسلمة الباقية. وجد في الرئيس قادروف – مع إقرارنا بأنه ليس شخصية دمثة جدا – حلاّ للمشكلة الشيشانية. جعل قادروف الرعب يسود وأسس جمهورية إسلامية تطبق الشريعة. عندما نزور الشيشان، نشعر كأننا خارج روسيا. يبدو المسجد الكبير في غروزني الذي بني بتمويل سعودي، مصدر قوة، ويشكّل إقرارا بالإنتماء الى الإسلام الشامل. ليس مفاجئا إذاً ان يحارب ناس يتحدّرون من شمال القوقاز، في أفعانستان وفي سوريا أخيراً. على أرض الواقع، ثمة إحساس بالإنفصال عن روسيا التي تغمض عينيها عما يجري، لعجزها عن فعل أكثر من ذلك.
– تربطين في بحثك الأحدث مأساة سلالة رومانوف بعجز روسيا عن حلّ التناقض بين ثقافتها الشعبية المطبوعة بالأرثوذكسيّة والثقافة الأوروبية. نقرأ: “تعايشت هاتان الثقافتان على مرّ قرون حكم سلالة رومانوف، لتعكس روسيّتين متجاورتين: روسيا البسطاء الخاضعين لسلطة الحق الإلهي وروسيا النخَب والمُدن التي اندمجت في اوروبا”. أنحن إزاء تناقض ثقافي واجتماعي على السواء؟
– وصلت سلالة رومانوف الى السلطة وروسيا في حال خراب، لتعتمد في إعادة بنائها على الرابط الشعبي، اي الدين، وعلى التوجه صوب أوروبا. كانت عقيدة الدولة حديثة جدا وأوروبيّة ولا سيما مع الكسندر الثاني، لكن اغتياله أقنع إبنه وحفيده بأن الإصلاحات وفق النمط الأوروبي ستؤدي الى نهاية مأسوية. تخلى ألكسندر الثالث تاليا عن الإصلاحات السياسية التي بدأها والده والتي كانت ستجعل روسيا ملكيّة دستورية. لكن ابنه نيكولاس الثاني، لم يوقف التطور الحداثي الإقتصادي تماما الذي بدأه والده الكسندر الثالث، وجعل روسيا عشية الثورة بلادا تضاهي الولايات المتحدة الأميركية اقتصاديا. لكن اغتيال الكسندر الثاني كبح الإصلاح، وعقدّت الحرب العالمية الأولى المسائل تماما. كان نيكولاس الأول وفياً لتحالفاته وخصوصا لـ”الحلف الروسي الفرنسي”، وبغية إنقاذه استدان مبلغا هائلا من فرنسا.
– في آخر فصول البحث تقدّمين نيكولاس الثاني كرجل افتقر للحظ، ورث العرش من والد توفّي بميتة طبيعية وانخرط حاكما متنوّرا في “الربيع السياسي”. لكن تظاهرات طالبية قامت في موسكو وسان بطرسبرغ وفرصوفيا وكييف وبلغت الذروة مع اغتيال أحد الطلاب لوزير التربية. لماذا استحال تفادي ثورة 1905؟ هل كان لمشكلة الفلاحين دور في ذلك؟
– شكّلت الحرب الروسية اليابانية السبب الأول، في موازاة تكوّن حركة ثورية وعى صانعوها ان عليهم التحرك بسرعة لأن التطور الروسي سيمنع تحقيق مآربهم. كان وجد حلّ جزئي لوضع الفلاحين عبر تحريرهم لتبقى مسألة الأرض وهي، وفق الفلاح الروسي، ملك من يزرعها. ولأن الفلاحين اعتمدوا على مردود الحرف الصغيرة في معيشهم أيضا، تأثروا بالتطوّر الصناعي سلبا. السبب مزدوج إذاً، الحرب الروسية اليابانية من جهة، والعجلة الصناعية التي جعلت حياة الريف صعبة، من جهة أخرى، فحصل انفجار 1905 الذي شكّل فرصة رائعة لروسيا لأنه أفضى الى تشكيل الدوما، التي وإن لم تكن مثاليّة، شكّلت بداية الحياة البرلمانية.
– تذكرين في البحث الكاهن غابون وكان احد رموز الحركة النقابية وخطيبا لافتا جمع حوله العمال في العاصمة ليعلن متوجها الى القيصر “إترك شعبَك يشاركُكَ حكم البلاد”. اقتنع غابون الحالم ان مهمته مصالحة القيصر والشعب عبر الحوار.
– انتمى غابون الى حركة نقابية بوليسية أدارتها شرطة القيصر السرية وجاءت من الأعلى. آنذاك استشرى العنف، وكان يقتل الوزراء دوريا. أدركت النخب الفكرية ان حركة نوعيّة خبَت تحت السطح، وان الثوار الروس شخصيّات ثقافية لافتة. أما الكاهن غابون فمثال أثار الإهتمام لأنه آمن في المحصلة بالمهمة التي أوكل بها. انزلق الى مكان مفاجئ، مقتنعا انه زعيم. إجمالا، متى يجرى التحكّم بالناس، يخرجون على السيطرة.
– تستبقين في بحثك كلام شكسبير في “ماكبث”، “الحياة خرافة يتلوها أبله وتضجّ بالصخب والعنف” وتسقطينها على تاريخ آل رومانوف. فمن يلام على تلاوة حكايتهم على هذا النحو؟
– روسيا بلاد قدرها عاثر، كتبتُ ذلك قبل أعوام في “الشقاء الروسي”، كتاب وقّعته في لبنان أيضا. ثمة بلدان قدرها سعيد، مثل البشر. تصطدم أفكار المساواة والعدالة وسواها بواقع ان بعض الناس يفيدون من أقدار مؤاتية دون آخرين، وأن البعض يصاب بالأمراض ويبقى الآخرون أصحاء. في الظاهر روسيا بلاد غنيّة بالموارد، لكن تاريخها تبدى جهنميّا. روسيا بلاد حظها عاثر بعض الشيء، لأنها قائمة بين قارتين ولم تستطع تحديد هويتها. نالت روسيا نصيبها من الشقاء أكثر من بلاد أخرى، وهنا الدليل على وجود الحظّ. لو ان الاستحقاق هو المعيار لكان القديسون أصحاء. أستعيد سؤالا طرحه الطبيب الكبير من القرن السادس عشر امبرواس باري في “الوحوش والمعجزات”، سؤال مناسب تماما تصعب الإجابة عنه: “هل الوحوش عقاب الله أم على العكس، نعمة؟”.

Advertisement