محمد م. الارناؤوط – كوسوفو
على الرغم من أن الطلب الفلسطيني للحصول على وضعية دولة مراقب في الامم المتحدة حظي بتأييد واسع (138 دولة) إلا أنه كان من الملفت للنظر أن عدد الدول التي امتنعت عن التصويت (وهو نوع من الرفض الدبلوماسي) وصل الى 41 دولة معظمها في أوروبا. وإذا أضفنا اليها بعض الدول الرافضة (الولايات المتحدة وكندا الخ) فإن “الكتلة الممانعة” تتمركز في الغرب وتتمتع بتأثير كبير على المستوى الاقليمي. ولكن المفاجأة جاءت للفلسطينيين وغيرهم من دول البلقان، التي كانت تاريخياً تحسب مؤيدة للقضية الفلسطينية، حيث امتنعت معظم دول المنطقة (ألبانيا وكرواتيا والجبل الاسود والبوسنة وهنغاريا وبلغاريا ورومانيا ومكدونيا) عن التصويت بل لم تصوت لمصلحة القرار سوى صربيا واليونان!
ولا يزال هذا الموضوع يتفاعل في الصحافة البلقانية حتى الآن، حيث يتم الكشف عن خلفيات الضغوط التي مورست على بعض هذه البلدان. ولكن المفاجأة ربما كانت للفلسطينيين وبعض العرب الذين لا يتابعون كالعادة ما يستجد في العالم. ففي السنتين الاخيرتين قامت اسرائيل باختراق ديبلوماسي في البلقان حيث نجحت في تحسين علاقاتها مع معظم دول المنطقة بالاستناد الى تقديم المساعدات المختلفة (وخاصة زيادة الاستثمارات) وتعظيم “خطر الارهاب الاسلامي”. وقد حققت اسرائيل انجازاً كبيراً بتحسين علاقاتها مع بعض الدولة ذات الوجود المسلم (ألبانيا والبوسنة ومكدونيا وبلغاريا والجبل الاسود) لتؤكد أنه لا مشاكل لها مع المسلمين بل مع بعض العرب والمسلمين “الارهابيين”.
وفي الوقت الذي بدأت الاستعدادات لجولة التصويت في الأمم المتحدة جاءت “حرب غزة” لتكشف قبل عشرة أيام عن بعض المؤشرات لما هو آت. فقد كان من الملفت للنظر أن الحكومة الالبانية أصدرت حينها بياناً يدين “اطلاق الصواريخ على اسرائيل” ويحمل حماس المسؤولية من دون أية إشارة الى الطرف الآخر. وفي هذا السياق أيضاً أرسل رئيس “جمهورية الصرب” في البوسنة ميلوراد دوديك في 19 تشرين الثاني رسالة تأييد الى الرئيس الاسرائيلي شمعون بيريز. ومع أن السفير الفلسطيني في سراييفو خالد الاطرش احتج على هذه الرسالة واعتبرها “صدمة” إلا أنه لم يشأ أن يرد عليها “للحفاظ على العلاقات الممتازة بين البوسنة وفلسطين”.
ونظراً لان “جمهورية البوسنة والهرسك” بحسب اتفاقية دايتون تتألف من كيانين شبه مستقلين (جمهورية الصرب وفيديرالية البشناق والكروات) فإن مجلس الرئاسة المؤلف من ثلاثة أعضاء (بشناقي وصربي وكرواتي) يتخذ القرارات السيادية بالاجماع. ونظراً لموقف “جمهورية الصرب” المؤيد لاسرائيل فقد كان الحل الوسط هو الامتناع عن التصويت، بينما كان موقف وزارة الخارجية يطالب بالتصويت لمصلحة القرار الفلسطيني.
وعلى عكس موقف “جمهورية الصرب” (التي تحتل 49% من مساحة البوسنة) المؤيد لاسرائيل فقد كان موقف “جمهورية صربيا” على العكس من ذلك تماماً. ففي السنوات الاخيرة كانت سياسة الكيانين تسير في اتجاهين متعاكسين: ففي الوقت الذي كانت فيه “جمهورية صربيا” تحسن علاقاتها مع تركيا (التي تبنت التصويت لمصلحة الطلب الفلسطيني) كانت “جمهورية الصرب” تحسن علاقاتها مع اسرائيل. وقد خدم الموقف الفلسطيني أن وزير خارجية صربيا السابق فوك يرميتش قد انتخب في الصيف رئيساً للدورة الحالية للجمعية العامة للامم المتحدة، وهو المعروف بعلاقاته الواسعة مع دول عدم الانحياز. ولكن النشاط الذي مارسه يرميتش بين دول عدم الانحياز لمصلحة التصويت على الطلب الفلسطيني لم يكن كله لاجل فلسطين بل لأجل كوسوفا أيضاً. فقد زاوج بركوفيتش بين تأييد دول عدم الانحياز لمصلحة الطلب الفلسطيني مع عدم اعترافها باستقلال كوسوفا عن صربيا، وهو الذي يعتبره إنجازه الأكبر حيث إن كوسوفا لم تتخط بعد عتبة المئة للدول التي اعترفت باستقلالها منذ 2008.
ولكن المفاجأة الاكبر جاءت من ألبانيا التي كانت تاريخياً مؤيدة للقضية الفلسطينية. ففي السنوات الاخيرة تحسنت العلاقات بسرعة بين ألبانيا واسرائيل التي توجت بالزيارة الثالثة لرئيس الوزراء الألباني صالح بريشا الى اسرائيل في تشرين الثاني(نوفمبر) 2011، حيث انتقد بشدة توجه الفلسطينيين للامم المتحدة ودعاهم الى التفاوض فقط مع اسرائيل. ولكن الصحافة التركية والالبانية كشفت هذه المرة عن توتر في العلاقات بين رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان وبين رئيس الوزراء الالباني صالح بريشا حول التصويت على الطلب الفلسطيني. فقد صدرت الجريدة الالبانية المعروفة “شكولي” (عدد 2/12/2012) بمانشيت “بريشا لم يخضع لضغوط اردوغان”، حيث كشفت عن توتر غير مسبوق بين ألبانيا وتركيا بسبب التصويت على الطلب الفلسطيني. وبحسب الجريدة فإن ألبانيا كانت قد اختارت التصويت بالرفض على الطلب الفلسطيني، ولكن الاتصالات التي تمّت بين اردوغان وبريشا انتهت الى اختيار ألبانيا الامتناع عن التصويت، وهو الذي لم يرض اردوغان. فقد انتقد اردوغان بعد الاعلان عن نتائج التصويت مجموعة الدول التي امتنعت عن التصويت، وخصّ ألبانيا ذاكرا انه تحدث مع بريشا وقال له ان الامتناع عن التصويت يوازي الرفض و”أن هذا يسيء الى العلاقات بين الطرفين”.
ولا شك ان هذا يعني الكثير لالبانيا لان العلاقة التاريخية مع تركيا وما قدمته تركيا لالبانيا في العشرين سنة الاخيرة لا يمكن التضحية به لارضاء اسرائيل فقط، على الرغم من أن الصحافة الالبانية تقول إن بريشا فعل ما فعله لارضاء الولايات المتحدة.

Advertisement